موجات التظاهر الشعبية العارمة ضد الفساد التاريخي وسوء الخدمات وتردي الأمن .... على أهميتها لا تشكل العقدة الرئيسية في معالجة وضعية النظام السياسي العراقي الذي خَلف نظاماً دكتاتورياً بغيضاً، ليكون النظام الجديد محل نظر أغلبية الشعب العراقي هو ايضاً، بعد أن تأمل فيه شعبنا خيراً ليجد في النهاية خيبة أمل مأساوية في إنتظاره.
ان تلك المظاهر السلبية ماهي إلا جزئيات من نظام سياسي مريض وعلاج كل منها على حدة يبقينا في حلقة مفرغة، فلا يُصلِح العطار ما أفسده الدهر... فساد لا مثيل له وحرب بين اللصوص لا تنطفأ جذوتها ولا حل يلوح في الافق، وإنحطاط في الخدمات العامة عاد بالعراق مئة سنة للوراء أو أكثر، وتدهور أمني خطير خطط له إرهاب عبثي كافرعاشه الناس وأعتادوا عليه مضطرين بعد ان يأسوا من الحلول الترقيعية، وإرهاب مستتر تقوده نزعات قبلية مزيفة وأدعياء بالمشيخة بدأ يلوح بالافق يقوم على النصب والإحتيال بعنوان الفصل العشائري متستراً وراء قيم قبلية تاهت بين الأصالة والزيف تزداد ضحاياه يوماً بعد يوم حتى اضحى صورة من صور الإرهاب المجتمعي.
وتكفي نظرة عابرة لوسائل الإعلام وموقع التواصل الإجتماعي للتأكد من هذه الحقائق وعندها تتيقن كم هي مشاكلنا التي تغرز في جروحنا وتصيبنا بالإحباط والهم والغم.
التظاهر ليس حلاً لوحده، ولم يأت بنتيجة رغم قوته واندفاعه الوطني ، لأن الامر ببساطة هو ان رئيس الوزراء وإن كان جاداً بالإصلاح وحاول إيجاد حلول فعالة، ولكنه لا ولن يستطيع ابدأً ان يحدث تحولات جذرية وعميقة،لأن النظام السياسي القائم يقيده بشده ويحبط عمله ويدخله في دوامة صراعات لا تنتهي، ويبقى الامر كذلك بالنسبة لأي شخص يحل محله.
مشكلتان اساسيتان يجب النظر اليهما بعناية وهي أصل العقد والمنطلق للحل الجذري وهما الدستور وقوة الدولة بثقة الشعب بها وبناء أجهزة أمنية وطنية تحمي الوطن والدستور:
انا اعرف اني لم أتي بمعرفة جديدة ولكن لننظر في الملاحظات التالية:
الدستور: جاء الدستور بنظام ديمقراطي للحكم، قد يكون مثالياً في بعض جوانبه، والمثالية قد لا تنفع أزاء شعب سجنه النظام الدكتاتوري وخنق انفاسه عهوداً ليجد نفسه فجأة أزاء حرية شبه مطلقة، فضلاً عن موروث اجتماعي قبلي يقدم المصلحة القبلية والعشائرية حتى في المواضع التي لا تصلح لها، فكانت الإنتخابات وكأنها عرس عشائري جهز لأبناء العشيرة حصراً.
ذلك إن الدستور القائم ونظامه الانتخابي لا يصلح لبناء تجربة ديمقراطية حقيقية، فهو دستور يعدد مراكز القوى دون ضوابط واضحة للعلاقات بين السلطات المركزية والمحلية، وكنتيجة لذلك هو دستور طارد للكفاءات وللعلم والمعرفة والخبرة وكل مظاهر الثقافة والتحضر ... فمن خلال المحاصصة اللعينة والكارثية رأينا اناساً من شذاذ الأفاق وعقول متحجرة هي خليط من الجهل والمكر البدائي ومنتهزي الفرص يتسلقون المناصب بالخرافة تارة وبالشهادات المزورة تارة أخرى وبعمامات مزيفة منقعة بالشره والطمع وكل انواع المكر والخديعة... لينتج لنا فساد لا مثيل له لا في العالم المعاصر ولا في التاريخ الإنساني ...
وهذه مسألة طبيعية .... كيف للجاهل والمحتال والمزور والطامع والشره ان يكون وطنياً مضحياً بمصلحته الشخصية من أجل مصالح شعبه ورفعة وطنه، ان مثل هذه التعابير بالنسبة له هي مجرد مسرحية للسخرية لا أكثر...
قمم شامخة عراقية أصيلة ذات تراث عائلي وطني أصيل، في الثقافة وعلماء أفذاذ في العقيدو والشرع والأقتصاد والقانون والأدب ومختلف الكفاءات العلمية فشلت في الإنتخابات، لا لنقص في مقدرتها ووعيها الوطني والحضاري والشرعي بل لإنها لم تمارس الخديعة والوعود الكاذبة، لأنها لم توزع الرشاوي، إنها تأبى وتأنف أن تفعل ذلك، لأنها لو فعلت لما صلحت للنيابة والحكم كما ترى في قرارة نفسها..
ايها الناس، كيف تصدقون من تكون الرشوة والخداع والخرافة وسيلته لابتلاع مقعدكم النيابي؟ الم تبنوا حضارات قبل كل الحضارات؟ ألم تقم ثورة الحسين عليه السلام على أرضكم؟ .... مالكم تبكون عليه ولا تبكون على مبادئه وقيمه الإسلامية الحقيقية!!!.
فرصتكم ومستقبلكم في دستور جديد يكتب بأيديكم
الأمن العام: الدكتاتورية بحكم طبيعتها توفر الأمان كأولوية وبقوة وحرص بالغ لحماية وجودها ونظامها أولاً وينعكس ذلك على حياة الناس نوعاً ما وإن بقى أمنهم الشخصي محل تهديد دائم بسبب تنوع الأجهزة الامنية العلنية والسرية وأفرادها المنتشرين في كل زاوية من زوايا البلد والتي تراقب انفاس الناس وكل شاردة وواردة، وكنتيجة غير مباشرة فإن الجرائم اياً كان نوعها يمكن ان تكتشف ببساطة ودون عناء.
كيف تخلخل الأمن في العراق؟ نعود لذات المصيبة (المحاصصة وابنها الفساد). فقد أدت كارثة الكرادة التي اودت بحياة المئات من شبابنا وأطفالنا الى إبراز حقيقة هي معروفة أصلاً .. الإرهابي لا يصل الى هدفه، مع الأعداد الضخمة لرجال الأمن والسيطرات، إلا بالفساد والرشوة لبائعي الشرف والضمير ليتمتعوا بدولارات واموال حرام هم وعوائلهم على وقع جثث الشهداء ونحيب الايتام والأرامل ...
الإرهاب المستتر: عصابات مرعبة تتستر بذرائع قبلية مزيفة تقوم بالقتل والسرقة وابتزاز الناس بإسم الفصل العشائري، عصابات تعتدي على الناس وحرماتهم وأموالهم وحين يقدم المواطن المبتلى شكواه على الجناة حتى يأتيه التهديد بأسم الفصل العشائري، اطباء وصيادلة ومدرسين ومربي أجيال ومحامين وغيرهم وضعوا تحت طائلة الفصل العشائري بحجج واهية وذرائع شتى،.... اذاً لماذا وجد النظام القانوني والقضائي وما معنى وجود الدولة المعاصرة التي قامت على انقاض القبلية؟ إذا كان من يعتقد إن له حقاً يريد أن يأخذه بيده متجاهلاً سلطة القانون والدولة، بل ان بعضها اصبح أقرب للطرافة وعدم المعقولية، ((فمما يروى ان لصاً سطا على دار وما أن مسك مبردة الهواء حتى صعقته الكهرباء ومات فجاءت عشيرته تطالب بالفصل بحجة إن (مبردتكم قتلت إبنه).. ومنها (جريديكم عبر علينا وفزع النسوان).)) ..وغيرها عشرات الروايات ... وبغض النظر عن مدى مصداقية هذه الرواية وغيرها فانها تعبر عن الشعور العام بالضيق والقلق ومدى انزعاج الناس من إرهاب مستتر بدأ ينال من أمنهم واستقرارهم.
اليس هذا إرهاباً يجب ان يتعامل معه وفق قوانين مكافحة الإرهاب؟
ما هو الحل؟
الحل ليس مستعصياً، ولا يحتاج الى معجزة لتحقيقه، انه يتحقق بحل أصل المشكلة، الدستور، نعم نحن الشعب العراقي يجب ان نكتب دستورنا بأيدينا، نعم دستور يشارك في وضعه ابناء العراق وصفوتهم الثقافية من رجال الثقافة والأدب والعلم والقانون والدين ممن شهد لهم بالإخلاص والكفاءة ولا يسمح لسياسي الصدفة بالتلاعب فيه ....
أما المشكلة الأمنية التي تبدو مستعصية، فهي من الواضح ان سببها الفساد، ومراجعة الذمة المالية لمنتسبي الأجهزة الامنية وملاحظة الثراء الفاحش الذي تحقق للبعض هو الكفيل بحل جزء كبير من المشكلة.
اما الإرهاب المستتر فحله بيد الدولة ورجال العشائر الأصلاء لوضع ضوابط محددة لمعالجة الاشكالات العشائرية وكل من يخرج عن هذه الضوابط يعد فعله عملاً إجرامياً وإرهابياً لانه يشيع الفوضى وعدم الإستقرار في البلد ويهدد حياة الناس وأموالهم ويضعف ثقة الناس بالدولة أكثر مما هي عليه من ضعف بسبب تعدد مراكز القوى غير الشرعية.
دعوة: ان كنت مثقفاً وذو وعي، فلماذا لا تنتخب المثقف الواعي وتترك الادعياء، وإذا كنت متديناً، فلماذ لا تنتخب رجل الدين الفاضل ذو العلم الجليل غير المتحزب وتترك الدجالين، واذا كنت من رجال العلم والإختصاص فلماذا لا تنتخب الاختصاصي العالم وتبعد المزورين، وان كنت من ابناء العشائر فإنتخب من ابناء عشيرتك من ذوي العلم والمعرفة وإن بعدت قرابته ان كان لابد من نصر ابناء عشيرتك.
اخيراً سؤال يحيرني: كيف تواجهون العالم ايها الساسة وتجرون المقابلات الدولية وقد وضعتكم المنظمات الدولية على رأس قوائم الفساد؟ أليس امراً مخجلاً؟ ألا تستحون؟ وهل تشعرون بالحرج من ذلك وانتم تقابلون ساسة الدول الأخرى والتقارير عنكم قد اطلعوا عليها قبل مقابلتكم بدقائق كإجراء إداري معتاد؟ هل يمكن لأحدكم ان يصف لنا نظرات اولئك القادة، وبعضهم لا دين ولا ديانة، إليكم؟
أنا أعرف ان هناك مسؤولين ونواب شرفاء بعضهم أستبعد من اول دورة وآخرون باقون ولكن تأثيرهم محدود لا يقوى على مواجهة ثعالب المحاصصة وذئابها، ولكن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة... بشيء من التضحية.
مقالات اخرى للكاتب