تبرز جريمة الفساد كظاهرة إجرامية عندما تتوفر مجموعة من العوامل المساعدة ، حالها حال أية ظاهرة إجرامية أخرى ، كما ان للظاهرة الاجرامية بصفة عامة خصائص وعناصر مشتركة ، سبق ان تناولناها بالدرس والتحليل في مبحث سابق (1) . إلا ان لكل ظاهرة إجرامية خصائص خاصة بها تتميز بها عن غيرها من الظواهر الإجرامية . وعلى هذا النحو فان لظاهرة الفساد خصائص خاصة بها ، ومن هذه الخصائص :
1- من حيث الطبيعة ونوعية الجناة:
تعد جرائم الفساد من الجرائم التي تخل بواجبات الوظيفة العامة والتكليف العام حسب الأصل، حيث ترتكب جرائم الفساد من قبل أفراد وجماعات تشغل وظائف عامة او تمارس تكليفاً عاماً. الا ان اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لسنة 2003 قد اطلقت ذات الوصف على نفس النوع من الجرائم المرتكبة من قبل افراد القطاع الخاص .
وينص على جرائم الفساد في القوانين العقابية على سبيل الحصر تطبيقاً لمبدأ ( لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ) ، وعلى هذا النحو اختلفت القوانين المقارنة في تحديد الأفعال والسلوكيات التي تعد جرائم فساد ، الا ان هناك جرائم فساد لا يخلو منها قانون عقابي ، منها جريمة الرشوة وجريمة الاختلاس .
وجريمة الرشوة هي الأخطر على المجتمع والاقتصاد والقيم الخلقية من بين جرائم الفساد كلها . حيث انها لا تترك خلفها أثرا مادياً يمكن ان يقتفيه المحقق في الأغلب كونها تتم خلف الأبواب الموصدة وخاصة جرائم الرشوة الضخمة .
وتتجسد خطورة الرشوة في إنها تدفع مقابل الحصول على معلومات عسكرية أو اقتصادية او لتمرير صفقات فاسدة او انها تتسبب في إفساد القطاع الصحي او التعليمي او إيقاع ضرر في البيئة ، مما يهدد امن وسلامة المجتمع ككل .وتعرف الرشوة بانها ( متاجرة الموظف باعمال وظيفته للقيام بعمل او الامتناع عن عمل ) .
2ـ انها جريمة تنظيمية في وجه من وجوهها : والجريمة التنظيمية هي التي ينسب ارتكابها الى المرفق العام ذاته ويطلق على هذه الخصيصة وصف او مصطلح ( انحراف المؤسسات الحكومية ) وترتبط هذه الخصيصة بالمرفق العام لا بأعضائه من الموظفين .
حيث لفت انتباه الباحثين ان هناك مؤسسات حكومية ارتبطت بالفساد منذ نشأتها وبقي سمة ملازمة لها حتى بعد تغيير ادارتها المركزية او موظفيها عبر الزمن ، كالتقاعد او النقل او العزل او الاستبدال او الحل وإعادة التأسيس او غيره ، بمعنى اخر ان طبيعة عمل المرفق العام هي التي تشجع الموظف الذي لا يمتلك حصانة ذاتية مضادة للفساد على ارتكاب الجريمة ، وهكذا تتغير الوجوه ويبقى الفساد قائماً .
وتبدو هذه الخصيصة واضحة في المؤسسات العسكرية والتجارية وهيئات الضرائب ومكاتب منح الرخص وأية مؤسسة لها صلة وثيقة بالأنشطة الاقتصادية كالاستيراد والتصدير والتموين ، حيث يبدو الفساد وكأنه مرض مزمن او عاهة مستديمة في اغلب هذه المؤسسات العامة .
وعلى سبيل المثال بدت هذه الخصيصة واضحة في المؤسسات الفاسدة التي حُلت وأعيد تشكيلها بإدارة مركزية جديدة في العراق بعد سقوط النظام السابق في العراق ، حيث سارت على ذات النسق في ارتكاب جرائم الفساد.
3ـ انها ظاهرة ذات صلة وثيقة بالجريمة المنظمة : تعتمد مؤسسات الجريمة المنظمة على الفساد بصفة أصلية لتحقيق أهدافها ومشاريعها الإجرامية عبر القارات ، وتمرير صفقاتها واستردادها في حالة الحجز عليها ادارياً ، وهي تعتمد على الفساد ايضاً في حماية أعضائها من المساءلة في حالة القبض عليهم واعاقة سير العدالة .
ومن جانب اخر يُشجع الفساد على نشوء الجريمة المنظمة، فالدولة التي ينخر الفساد جسدها تشكل عامل جذب للمنظمات الإجرامية الدولية . التي تدخل البلد على شكل شركات مقاولات او مؤسسات فنية او جمعيات خيرية وتمارس في الخفاء أعمال غسيل الأموال او تجارة المخدرات او الاتجار بالبشر او تجارة الأعضاء البشرية او الدعارة .
كما وتسهم الجريمة المنظمة في تعميق ظاهرة الفساد وتفشيها بما تضخه من اموال ضخمة كرشاوى للحصول على التراخيص والاعفاء الضريبي او الكمركي والمقاولات والمعلومات السرية واخفاء الأدلة الجرمية والتأثير على سير العدالة وللتخلص من الرقابة او غلق التحقيقات التي تجري بشأنها او مقابل السكوت عن أنشطتها غير المشروعة ولتصريف اية أعمال من أعمالها .
وبالمقابل تدعم مؤسسات الجريمة الموظفين الفاسدين للوصول الى المناصب القيادية العليا سواء عن طريق الدعم في الانتخابات او استخدام النفوذ لدى القيادات العليا والأحزاب السياسية في حالة التعيين .
ويكاد يجمع الباحثون على انه لولا الفساد لما كانت هناك جريمة منظمة مطلقاً، فالفساد هو البيئة التي تنمو فيها ظاهرة الجريمة المنظمة.
وتبدو العلاقة واضحة بين الفساد والجريمة المنظمة في تعريف اللجنة الرئاسية الأمريكية بشأن الجريمة المنظمة التي عرفت الجريمة المنظمة بأنها ( جماعة مستمرة من الأشخاص الذين يستخدمون الاجرام والعنف والإرادة المتعمدة للإفساد والحصول على منافع مادية والاحتفاظ بالسطوة ) . ويتحقق كل ذلك في ظل غياب الشفافية والرقابة والمساءلة او عدم فعاليتها. (2)
ان استمرار العلاقة بين مؤسسات الجريمة المنظمة والمرفق العام رغم تبدل قياداته وموظفيه ، وهو خير مثال يستشهد به للدلالة على الانحراف التنظيمي الذي ينسب للمرفق العام ذاته وللدلالة على العلاقة بين الفساد والجريمة المنظمة ايضا .
4ـ السرية والسكوت: فشلت في كثير من الأحيان جهود مكافحة الفساد في مختلف دول العالم ، ذلك أن الفساد جريمة سرية ( ضبابية ) يصعب في كثير من الأحيان اثباتها من خلال الوسائل التقليدية للإثبات والتحقيق ، بالنظر لاحتياط الفاسدين بعدم تركهم ورائهم دليلا ماديا يشير الى تورطهم في هذه الجرائم ، أذ هي تتم في اغلب الأحيان بعيدا عن أعين الناظرين وخلف الأبواب الموصدة ، ويرتكبها في الغالب أشخاص على قدر من الدراية والمعرفة بأساليب الالتفاف على القانون وفي تسخير المعرفة التي يمتلكونها لاغراض دنيئة ، ولذا يعجز ضحية الفساد غالبا عن إثبات دعواه أمام القضاء فيرجع خائبا ومضطرا لان يكون ضحية للفساد في المرات المقبلة أيضا.
ومن جانب اخر فان شركاء جريمة الفساد المستفيدين منها وضحاياها في نفس الوقت ، يتكتمون على هذه الجريمة خشية فقدان المزايا التي اكتسبوها بوساطة الفساد . فمن يحصل على امتياز المرفق العام او من يحصل على شهادة مزورة او حكم قضائي لا يستحقه قانوناً لا يمكن ان يُبلغ عن هذه الجريمة ليخسر في النهاية ما كسبه بطريق غير مشروع .
وازاء هذا التحدي الكبير سعى فقهاء القانون والمعنيين بجهود مكافحة الفساد الى إيجاد أنظمة قانونية جديدة تتسم بالفعالية والمرونة في التطبيق تكفل الحد من هذه الظاهرة الخطيرة الى ابعد مدى ممكن ودراسة اسباب الفشل الذي اعترى وسائل مكافحة الفساد.
5ـ استخدام النفوذ : تتميز هذه الجريمة في انها ترتكب غالباً من قبل رجال السياسية والأحزاب والسلطة العامة عموماً ، ممن لديهم القابلية على النفاذ إلى مؤسسات الدولة الرسمية والقضائية والعسكرية ، والتأثير عليها بما يمتلكونه من نفوذ وسلطة وهيمنة ، فضلا عن قابليتهم على الحيلولة دون تقديم الشكاوى بالتهديد والوعيد او بدفع الأموال لشراء السكوت .
6ـ الواجهة الإجرامية : تمارس جرائم الفساد باستخدام اساليب ملتوية منها، انها تمارس بوساطة شركاء يمثلون الواجهة للفاسد الأصلي الذي يشغل عادة مركزاً مرموقاً او وظيفة ذات صلة مباشرة بحاجات الناس كالرخص الإدارية ، ويبقى الفاسد الأصلي خارج مدى الرؤيا والمسؤولية . ويظهر الفاسد عادة امام الناس ووسائل الاعلام بمظهر الشريف الطاهر .
ويُختار الشركاء عادة من بين البسطاء او من ذوي النفوس الضعيفة والضمائر المنحطة الذين يسهل التخلص منهم في نهاية الامر وذلك بإلقاء المسؤولية الجنائية على عاتقهم او قتلهم اذا اقتضى الامر .
7ـ عدم اللجوء الى العنف على الأغلب : تمتاز الغالبية العظمى من جرائم الفساد بانها تتم باتفاق بين الجاني والضحية ، بل ان الضحية هو الذي يسهل في الغالب ارتكابها عليه ويوفر الظروف الملائمة لها
لتحقيق مصالحه غير المشروعة او لتحقيق مصالحه المشروعة بوسائل غير مشروعة ، وعلى هذا النحو لا حاجة للعنف .ذلك ان جرائم العنف غالباً ما تلفت انتباه المجتمع وتكون محل اهتمام السلطات مما يؤدى الى كشف الجريمة ودوافعها .
وسبق القول ان هذه الجريمة ترتكب من قبل أشخاص على قدر من الفهم والقابلية على تدارك الأوضاع السيئة ، وعلى هذا النحو فانهم لا يلجئون الى العنف الا كحل أخير عندما تتوفر معلومات عنهم لدى اخرين وتشكل خطراً على حياتهم ومستقبلهم المهني وبعد فشل الأساليب الأخرى لحمل صاحب المعلومات على السكوت .
8ـ انها ظاهرة ذات طبيعة اقتصادية :
تأثير الفساد السلبي على الاقتصاد الوطني امر متحقق دائما ولذا يبدو انه من مستلزماته بل ونتيجة طبيعية له ولذا فانه يبدو كخصيصة من خصائص هذه الجريمة اكثر مما يبدو كأثر من اثاره .
ويقلل الفساد من فرص الاعمار والتنمية وفرص الاستفادة من المعونات والقروض الدولية ويخفض من معدلات النمو بصورة كبيرة ، كما يؤدي الى تدهور البنية التحتية والخدمات العامة.
وأكد تقرير منظمة الشفافية الدولية لسنة 2005، أن الرشاوى التي يستولي عليها قلة من البشر على حساب غالبية المواطنين، تؤثر بشكل كبير على تحقيق أهداف التنمية المستدامة، مثل: القضاء على الجوع الذي يعاني منه 1.2 مليار شخص يعيشون على أقل من دولار في اليوم، وتعميم التعليم الابتدائي، بحيث يستوعب 113 مليوناً من الأطفال محرومين من فرص التعليم في العالم، وتخفيض وفيات الأطفال دون سن الخامسة بواقع الثلثين، حيث يموت 11 مليوناً من الأطفال الصغار سنوياً.
ويقول رئيس المنظمة، بيتر ايجن، في عرضه لتقرير عن الفساد لعام 2005، ) يعد الفساد في المشاريع العامة الكبيرة الحجم، عقبة كبيرة أمام التنمية المستدامة، ويعد كارثة كبيرة على الدول المتطورة والنامية على حد سواء"، مضيفاً "أنه عندما يغلب الإنسان المال على القيم، تكون النتيجة إنشاءات رديئة الجودة وإدارة ضعيفة للبنى التحتية، وأن في ذلك مضيعة للمال، ونهبا لموارد الدول، وقتل أرواح في الكثير من الأحيان"، مؤكداً على ضرورة "المحافظة على الأموال والمعونات المخصصة لمشاريع إعادة البناء في بعض الدول، مثل العراق من خطر الفساد"، مضيفاً "يجب أن تكون الشفافية الشعار الأول، وخصوصا في هذا الوقت الذي تقوم فيه الدول المانحة بضخ مبالغ هائلة من أجل إعادة البناء في الدول الآسيوية التي تضررت بفعل مد تسونامي).
ويقول ايجن، "إن الفضيحة التي تم الكشف عنها في برنامج "النفط مقابل الغذاء"، الخاص بالعراق، أظهرت الحاجة الملحة لوضع قوانين صارمة فيما يتعلق بتضارب المصالح، وأهمية الانفتاح في عملية المناقصات(3).
و تخلص أبحاث معهد البنك الدولي إلى أن أكثر من تريليون دولار أميركي (1000 بليون دولار أميركي) تدفع رشاوي كل عام . وأن هذا الرقم لا يتضمن اختلاس الأموال العامة أو سرقة الموجودات العامة. وتبين أبحاث معهد البنك الدولي أن البلدان التي تكافح الفساد وتحسّن سيادة القانون فيها يمكنها أن تزيد دخولها الوطنية بما قد يبلغ أربعة أضعاف على المدى الطويل ويمكنها أن تخفض وفيات اَلرُّضَّع فيها بنحو 75 في المائة. وان بلدا يبلغ نصيب الفرد فيه من الدخل 2000 دولار ، يمكنه اذا جابه الفساد وعمل على تحسين نظام الادارة العامة وسيادة القانون فيه ، ان يتوقع زيادة نصيب الفرد من الدخل فيه الى 8000 دولار أمريكي على المدى الطويل (4) .
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
1 ــ بحثنا الموسوم ( الجريمة والعقاب ـ ج1 ـ الظاهرة الإجرامية )
2 ـ منشور في موقع الشفافية الدولية.
3ـ منشور في موقع الشفافية الدولية.
4ـ تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002 ص47 .
**************
مقالات اخرى للكاتب