وحان موعد العملية وكالعادة تخدير ثم إنعاش، ولا يؤخذ الوقت الذي بينهما بالحسبان كون المريض فاقد للوعي تماما.
فتحت عيني لأرى امامي وجها جميلا جدا ، ممرضة تحمل كل حنان الكون، تبتسم بثقة ورقة ، ما زال اثر المخدر في الجسد يشعرني بالوهن والتعب، انها هي هي (سيوكل)التي فارقتها قبل اربع واربعين عاما عندما انتزعتني الدولة من مدينتي والقت بي خارج الحدود، كنت حينها في السابعة عشرة من عمري وكانت هي في الخامسة عشرة، لقد كانت في عمر الزهور وترتدي دائما الثياب ذات الالوان البهيجة التي تحتوي على الزهور، اتذكرها عندما تعود مع والدتها واختها الصغيرة من الحمام العمومي للمدينة، ممتلئة الجسم، محمرة الخد، وابتسامتها التي ترد الروح الى الروح.
لم اصارحها قط، لقد كان حبا من طرف واحد، ولكنها كانت تشعر بالظمأ الساكن في نظراتي.
حينها لم اكن اعرف كيف يشبهون خدود الصبايا بالتفاح حتى رايت خديها.
ولم اكن اعرف كيف يشبهون الشفاه بحبات الكرز حتى رأيت شفتيها.
ولم أكن اعرف كيف يشبهون الشعر بشلال الذهب حتى رأيت استرساله وانسيابه على كتفيها.
ولم أكن اعرف كيف يشبهون الصبايا بالغزلان حتى رايتها مقبلة مدبرة، كنت ارى زرقة السماء في عينيها.
كنت حينها شابا مراهقا نحيلا ضاربا في السمرة، بملابس رثة وخيال واسع وطموح كبير، ووالدي ذلك الشيخ الفقير يتحسر في اعماقه، لأنه كان يشعر بان ابنه المراهق يفكر بدمية ذهبية من اسرة غنية اسمها (سيوكل) يعمل ابوها مديرا للمدرسة الثانوية في المنطقة.
بين هذه اللحظة التي ارى فيها (سيوكل) تقف امامي وبين ذلك الزمن الجميل، سهول وجبال وبحار ومسافات ومدن ودول واحداث وحروب وحصار وغربة وآلام واحزان وامراض وولادات ووفيات، بينهما ما يقرب من نصف قرن من الزمان، ولكن كيف وصلتني الان سيوكل صورة صافية نقية بالالوان الطبيعية، ممرضة بيضاء في بداية العشرينات، لقد آن الاوان ان اصارحها بحبي واعترف لها بهيامي وعشقي، فقلت لها: ما أجمل مجيئك الان وما أجمل ملامحك؟ لم تكبري كثيرا، وهذه خدودك كالتفاح وهذه ابتسامتك وجسدك الغض البض، ولكن كيف حافظت على شبابك طوال هذه المدة؟ لقد كنت حينها في الخامسة عشرة والان انت في العشرين وانا اقترب من الستين، كيف ذلك؟
كانت تستمع باهتمام وتبتسم بثقة، تقدمت مني و وضعت يدها على جبيني ثم امسكت بكفي وهمست: انا كارولين من اسكتلندا واعمل هنا ممرضة متدربة، ويبدو انك ما زلت تعاني من اثر المخدر.
قل لها: اذن انت ابنتها لان الشبه كبير جدا فهل كانت امك يوما في العراق؟
ابتسمت واستدارت ثم ذهبت عني دون جواب.
اذن انه التخدير وما حدث الان كان مجرد سراب في مستشفى اعادني للمنزل الاول وللحبيب الاول.