من بين ظرفاء القرية كان شخص طويل القامة يدعى شريف. لم يكن شريف مَرضيّاً عند أبيه الحاج سعدون البشتي. كان يجلس في الديوان والعلكة تدور في فمه وعندما ينهره يخرج العلكة و يلصقها بعباءة أحد الضيوف. كان شْريّف كما يسمّيه أهل القرية على عادتهم في تصغير اسماء الصبية، كان يصنع المقالب في جلّاس أبيه الحاج سعدون، كبير عشيرة آل بشتي وسيّدها. و منذ اليوم الذي تسمّم به أبو عطيوي بفنجان القهوة ما عادوا يقبلونها من يد شريّف. كان شريف قد وضع مسماراً صدئاً في دلّة القهوة وسقاها لضيوف أبيه، فتسمّم على أثرها المسكين أبو عطيوي. في إحدى ليالي الجمع و بينما كان الديوان مكتظّاً بالناس، اعتلى المنبر خطيب القرية الملّا عودة البشتي. كان صوته يفتّ الصخر بحسب توصيف أهل القرية. عندما شرع الملّا بقراءة المصيبة طأطأ الناس رؤوسهم شروعاً بالبكاء أو التباكي كما أوصاهم ملّا عودة بذلك. لحظات و ضجّ المجلس بالنحيب. كان الكلّ يبكي الا شريف، دسّ رأسه بين ركبتيه الطويلتين و صار جسده يهتزّ من الضحك. كان يضحك لأنه استرق النظر ليراقب مشاعر الملّا وهو يقرأ المصيبة، فسقطت عيناه على سرواله المفتوق. كانت خصيتا ملّا عودة مندلقتين من شقّ السروال مما جعل شريّف يضحك حد البكاء. عندما كبر شريّف فرّ من الخدمة العسكريّة واختبأ في بيت خالته ببغداد. و من هناك هرب الى السليمانيّة ثم تركيا و أوربا. استقرّ في فنلندا بعد رحلة تهريب طويلة و خطرة. في فنلندا اصطدم شريف بحاجز اللغة والمجتمع والعادات والقوانين الصارمة وكل شيء. غير أنّ أكبر ما كان يعاني منه شريف في الغربة أنّه لا يستطيع صنع المقالب هناك، فلا أحد يفهم عليه لغته، والكلمات التي تعلّمها لا تسعفه في صنع القفشات باللغة الفنلنديّة. تعرّف أخيراً الى شاني، شابّة جميلة من أصل روسي كان يناديها بـ كَظَم على اسم أمّه. عاش معها في بيتها وعلّمها بعض الجمل والمفردات العربيّة كي تضحك عندما يحكي لها نكتةً من تأليفه. ولكن بلا جدوى، لذلك مرض شريف وتبدّل حاله بعدما يئس من إمكانية ممارسة الصنعة الوحيدة التي يجيدها، الضحك. صار كئيباً و اجتاحت روحه موجة حنين لقرية آل بشتي التي هجرها بإرادته. غابت عنه شاني، أو كَظَم في رحلة عمل الى الصين. وعندما عادت وجدته حبيس غرفة الضيوف بعدما أبدل أثاثها. لقد حوّلها الى ما يشبه ديوان أبيه الحاج سعدون البشتي. أخرج طقم الكنبات وأبدله بجلسة عربية على الأرض. أبدل الستائر البلاستيكية بأخرى من القماش الأسود. علّق على الحائط صوراً ترمز لشخصيّات دينيّة. وضع في صدر الديوان كرسيّاً كبيراً وغلّفه بقماشة سوداء. اشترى ثمرتي باذنجان، شدّهما بخيط وعلّقهما على الكرسي، ثم جلس يبكي تارة ويضحك أخرى. فزعت كظم لما رأت عيناها فجلست الى جواره لتفهم مايدور. سألته عن السواد الذي تتشح به غرفة ضيوفها، فأجابها بأنّ شهر محرم قد حلّ هذه الأيام وعليه أن يمارس طقوسه التي اعتادها في قرية آل بشتي. سألته عن معنى الجلوس على الأرض فقال لها: هذه عادة أهل القرية يا كظم.
ـ و ما هذه الرائحة يا شريف؟
ـ ريحة البخور يـ كَظَم
ـ و ما هذا الوعاء الغريب يا شريف؟
ـ دلّة گهوة يـ كَظَم
فهمت المسكينة أنّ صديقها يمرّ بأزمة هوم سيك حادّة فظلّت تواسيه وتمسح على كتفه. في الأثناء التفتت الى ثمرتي الباذنجان المتدلّيتين من المنبر فسألته :
ـ حقّاً، ما هاتان الباذنجانتان على المنبر يا شريف؟
ـ خصاوي ملّا عودة يـ كَظَم