سبق وان نشرت مقالة بعنوان "الحاجة الى تأسيس وزارة لشؤون الجنابر في العراق" على "صوت العراق" بتاريخ 19 تشرين الثاني 2015 . في ذالك المقال ذكرت فيه ان ظاهرة الجنابر والاكشاك والبسطيات ليست بالضرورة من الظواهر المعيبة او الغيرحضارية اذا استطاعت الحكومة وبجهد بسيط تذليل العقبات التي تحيل دون تأسيس ساحات او أماكن تتوفر بها شروط معينة (القرب من مركز المدن, النظافة , التبليط , ساحات لوقوف السيارات , توفر الماء والكهرباء, الشرطة). ان تأسيس مثل هذه الأماكن ليس فقط يضيف مسحة جمالية للمدن وانما ستكون محل جذب السواح من داخل البلد وخارجه . يضاف الى ذلك هو القضاء على معانات المواطنيين من تكاثر الجنابر والاكشاك المبعثرة والغير حضارية على ارصفة الشوارع والتي أسست لخدمة المارة و حفظا لسلامتهم.
سبب الكتابة عن هذا الموضوع مرة ثانية هو قراة تقرير اعده السيد يعقوب يوسف جبر يوم 30 تشرين الثاني عام 2015 تحت عنوان "البسطيات والتجاوزعلى الأرصفة" . التقرير يتحدث بالتحديد عن مدينة الناصرية , ساحة الحبوبي , حيث وصف بعض المواطنين حالة انتشار البسطيات والجنابر والاكشاك على الأرصفة وعلى شوارع المدينة "تجاوز على النظام العام والاداب العامة", "تجاوز على الحق العام" , "سلوك طائش", " غياب العدالة الاجتماعية" , "ظاهرة غير حضارية" , " ظاهرة غير قانونية" , "مخالفة شرعية", "تجاوز على المال العام" , و "ثقافة الفوضى والتعدي على الأملاك العامه". ولكن , مع كل الأسف, لم يتطرق التقرير عن السبب الرئيسي لهذه الظاهرة وهي بلدية الناصرية . البلدية فشلت في توفير مساحة ارض تتوفر بها شروط تشجع اهل البسطيات والجنابر والاكشاك التجمع عليها.
ان من يعتاش على الاكشاك والجنابر هم الفقراء من أبناء الشعب العراقي , حيث ذكر التقرير ان سبب ازدياد عدد أصحاب البسطيات هم العاطلين عن العمل , العمل المؤقت الذي يقوم به طلبة المدارس والجامعات اثناء العطل وبعض العمال والموظفين بعد انتهاء الدوام الرسمي. اذن , ان هذه الفئة ليس لديها المال الكافي لتاجير دكان مع السرقفلية , وكان من الافضل لادارة مدينة الناصرية التعامل مع هذه الفئة المناضلة الشريفة بدرجة من الحكمة والمسؤولية والنظر الى الأسباب التي دعتهم الى "غزو" الأرصفة , ولا تعاملهم معاملة السيد الى عبده . ان تصريح احد أصحاب البسطيات في ساحة الحبوبي يكشف عن حجم معانات هذه الفئة , حيث يقول "ان بلدية الناصريةة لم تفكر فينا ولا كيف نعيش ؟ مبينا : انهم لم يجربوا الفقر والعوز الذي اجبر الكثير منا على فرش بضاعته وسط الشارع". وعليه فان من دفع أصحاب البسطيات والجنابر "غزو" الأرصفة هو ليس الترف والتبصبص على بنات سومر وانما الفقر والعازة وتفشي البطالة في هذه المدينة الرائعة .
البلدية لديها الحق وكل الحق في محاربة أصحاب البسطيات والجنابر وتغريم المخالفين بغرامات تصاعدية اذا كان هناك مكان مخصص لهؤلاء الفقراء , تتوفر فيه شروط تجمعهم . اما اذا لم تستطيع بلدية الناصرية توفيرها فستبقى المشكلة قائمة وسيبقى حرب البلدية مع هذه الفئة قائمة أطول من حرب البسوس وسوف يتدخل فيها الخيرون من رجال الدين والسياسيين لتخليص الجنابر والبسطيات من ايدي المحتلين لها . وستبقى المحسوبية والمنسوبية تفعل فعلتها , حيث سيبقى من لديه من أصحاب البسطيات ابن خالة ابن عمه يعمل في سلك البلدية مرفوع الراس , بينما يكون مصير الاخرين (بدون عشيرة) تحت مضايقات وهجمات البلدية . ياناس سهلوها على العالم ولا تكونوا كما تقول اغنية المغني العظيم المرحوم حضيري أبو عزيز , "علي اتعاونوا همه وزماني".
ظاهرة انتشار الجنابر والبسطيات في المدن الصغيرة والكبيرة ليس من العيب وليس مظهر من مظاهر فقر البلد وانما عدم تنظيمها ووضع شروط معينة عليها هي السبب في تشويهها . بالحقيقة لا توجد مدينة في دول العالم المتحضر بدون ساحات يتجمع فيها أصحاب الجنابر والاكشاك , وان هذه الساحات أصبحت من العناويين المهمة والبارزة وقبلة السائحين من الداخل والخارج . لا توجد مدينة صغيرة او كبيرة في اوربا بدون أسواق شعبية او سوق الفلاحين . وكذلك لا توجد مدينة صغيرة او كبيرة في الولايات المتحدة الامريكية بدون أسواق شعبية . بل تجد هذه الأسواق منتشرة في دول الخليج وبالأخص الامارات العربية . هناك بسطيات لبيع الأسماك على ضفاف الخليج , وعلى مسافة قريبة منها هناك عربات لبيع التمور بكل انواعه , وهناك أسواق من الاكشاك لبيع الملابس بكل أنواعها. وهناك أسواق شعبية في مدن المملكة المغربية تجذب السواح من جميع دول القارة الاوربية حيث يبدا هذا السوق في الساعات الأولى من الليل الى الصباح يعرض فيه الباعة أنواع الماكولات الشعبية والحلويات والعصائر بانواعها إضافة الى الاعمال الخزفية والزينة . ساستنا المحترمين يعرفون جيدا عن هذه الأسواق لانهم قضوا أوقات طويلة أيام النضال في المهجر ولا اعرف ما هو سر التغاضي عنها ؟ ربما سبب النسيان هو انشغالهم الوظيفي والحزبي , الله اعلم . ولكن على الأقل ان يخرج واحدا منهم يطالب بتوفير مساحة ارض تجمع أصحاب الجنابر والبسطيات ولكن بشكلها الحضاري لا بشكلها الموجود في مدينة الكاظمية حيث يتكدس البقالين مع القصابين مع العطارين في مكان واحد ولا يوجد حتى طريق يستطيع فيه مواطن من الوزن الثقيل السير بدون تحويل كرشه من جهة الى أخرى.
قبل اشهر زرت لندن وباريس, وقد زرت "سوق التفاح " وهو سوق من المفروض ليس غريبا على سياسينا المحترمين لانه يقع في وسط لندن . هذا السوق عبارة عن جنابر متلاصقة يعرض الفنانين رسومهم والنحاتين أعمالهم وهناك باعة لصور الفتوغرافية , وكذلك باعة حلي من الأحجار الكريمة , الهدايا التذكارية , والملابس التقليدية ومجاميع من المغنين وهم يغنون الأغاني الشعبية المعروفة . وفي وسط السوق مطاعم شعبية تقدم فيها الاكلة الإنكليزية المشهورة (البطاطة والسمك ) . هذا السوق هو واحد من عدد كبير من الأسواق في لندن يوفر فرص عمل محترمة للمواطن الإنكليزي ومكان يقضي السائح فيه ساعات ممتعة . المواطن الأمريكي او الأوربي تعب من كثرة المولات والسوبرماركت والتي تقدم بضائع متشابه لا طعم فيها ولا رائحة.
في باريس وقريبا من برج افيل هناك ساحة يجلس تحت اشجارها رسامون مهنتهم رسم وجه الزائر بمبلغ يعادل 50 دولارا , وتحيط هذه الساحة مطاعم واكشاك لبيع وجبات الطعام الشعبية ومجاميع من المغنين تجذب مئات بل الالاف من السائحين . مناطق نظيفة تتوفر فيها جميع وسائل الراحة وبالمقابل توفر للباريسيين فرص عمل محترمة .
اذن , ان انتشار الجنابر والاكشاك في المدن الكبيرة والصغيرة ليست ظاهرة تخلف ونشاز ولا توحي الى الفقر والرجعية بل على العكس تعتبر ظاهرة تغني المجتمعات بالتنوع وحفظ التراث الثقافي والاجتماعي . ان محاربة أصحاب الجنابر والاكشاك واستقبال الشركات العالمية مثل أسواق كارفور و سيف وي ومطاعم مكدونلد وهارديز و كنتاكي جكن ما هي الا عملية تدمير منظم لتقاليد وثقافة المجتمع. ما يقوم به مطعم مكدونلد على سبيل المثال هو تقديم سندويجة همبركر بالنوعية والمواصفات التي يقدمها في الصين , أمريكا, استراليا و المملكة المتحدة . وبذلك فان انتشار مطاعم مكدونلد سوف يقضي على الاكلات الشعبية مثل الباجه , التشريب الأحمر , قوزي على تمن , كبة حلب, كبة الموصل , باقلاء مع دهن الحر وعشرات من الاكلات العراقية التي نتباهى بها . وان انتشار السوبرماركت سوف يضيع علينا الكثير من العادات والتقاليد منها مناظر البقالين وهم يعرضون بضائعهم على المشترين بشكل جميل وجذاب , الاهتمام بالمشترين وعدم اعتبارهم مجرد عميل لهم , العلاقات العامة , حيث ان اغلب اخبار المدينة تسمع من البقالين والعطاريين والقصابين . والاهم من كل هذا وذاك هو ان انتشار السوبرماركت في المدن يعني تركز الثروة بيد عدد صغير من المواطنين بينما البقية الباقية منهم يعيشون الحرمان والفاقه . العمل في السوبرماركت لا يصنع رجال و نساء قادرة على شراء بيت او تغطية تكاليف الأولاد , بينما الاعمال الصغيرة الناجحة قادرة على ذلك .
القضاء على ظاهرة البسطيات والاكشاك تعتبر كارثة وطنية لان القضاء عليها تقضي على ثقافات جميلة. صدقوني , خبر وفاة مواطن من محلة البحية في الكاظمية يسمع عنه ليس عن طريق المذياع او التلفاز وانما عن طريق قصاب المنطقة وبقالها. ومن يجهز المتوفي ليس عمال السوبرماركت (لان رب العمل لا يوافق) وانما أصحاب البسطيات والاكشاك. وسيف وي لا يحمي الفن العراقي (اللوحات الفنية والتماثيل و الاغنية الشعبية ) وانما الأسواق الشعبية . في الأسواق الشعبية تظهر مواهب المواطن بكل المجالات وفيه تتنوع السلع والخدمات المحلية الصنع والتي قد لا تجدها في المحلات التجارية , وفي الأسواق الشعبية يشعر المواطن بالمتعة والراحة النفسية .
وصيتي الى سياسيينا المحترمين : عدد الأغنياء بداء يتنازل بينما عدد الفقراء في البلد بدا يتصاعد . 50% من اهل محافظة المثنى اصبحوا من الفقراء . عدم الدفاع عن هذه الشريحة المظلومة سوف يؤدي الى رفضكم في الانتخابات القادمة , وبذلك سوف تخسرون وظائفكم والعز التي انتم فيه .
مقالات اخرى للكاتب