يستنفد الطبيب، وسائل السيطرة على الحالة المرضية التي بين يديه، ساعيا لإستيفاء سبل العلاج كافة، هذا هو شأنه، أما بلوغ الشفاء، فشأن الرب.. جل وعلا، وما الطبيب الا إنموذج تطبيقي للآية القرآنية الكريمة: “وجعلنا لكل شيء سببا”.فهو يستحضر علمه المتراكم.. من دراسة أكاديمية وممارسة مهنية، تلقى الاولى، على مدرجات الجامعة، وعاش الثانية، تطبيقا وعملا.لذلك من يراجع أي منفذ طبي.. بدءا بمستوصف أولي.. داخل محلة شعبية، او طبابة بسيطة.. في قرية نائية، وإنتهاءً بمستشفى ضخم.. هائل المعدات.. حديث الأجهزة، يعمل فيه فطاحلة الطب ومبدعوه، سيلقى تفانيا من الملاك الصحي.. طبيبا ومعاونين وممرضات وعمال؛ لأن إزالة الوجع، وتعافي المراجع، رهان شخصي، بين الطبيب ونفسه، إزاء الجميع، حتى من يستفزه بعدوانية او سذاجة!
رياضة الفوز
الطبيب في العيادة، كالرياضي في ملعب، نازل كي يحرز فوزا؛ أما إذا أخفق او غلبه الغريم؛ فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها؛ لأن لا رياضي ينزل للساحة كي يخسر ولا طبيب يجلس في العيادة؛ كي يميت المرضى، وما ينفرط من سيطرته؛ نابع من حالة متقدمة يتعذر شفاؤها، او جرح بليغ، في موضع لا يتمكن منه المعالج، و… ربما خطأ في الإجتهاد.. تشخصيا او أداءً يسفر عن إلتباس، تتعالى عنده الأصوات، وتغلب الانفعالات الهوج، على الخطاب التأملي، مغيبا لغة التفاهم، وجل من لا يسهو؛ فالعصمة لله وحده.بل ثمة مراجعون لا يريدون ان يفهموا العذر مهما كان صادقا، فهم مثلا لا يقتنعون بأنهم تكاسلوا عن مراجعة الطبيب؛ فإستفحلت الحالة، او أقدموا على خطوة، غير دقيقة، إستلبت المبادرة من يد الطبيب؛ فتفاقم المرض، ودخل مراحل لن يجدي العلاج نفعا معها.. تلك وسواها من شؤون العمل الطبي، لا يريد البعض فهما، والبعض الآخر قاصر عن إستيعابها؛ ظنا منه أن الطبيب خزاف يعيد تشكيل الطين ويفخره في الأفران، كيف يشاء.
مبالغة مرة
الثقة بالطبيب حلوة، لكن مطالبته بالمعجزات مرة، وتلافي تقصير ذوي المريض، وتحقيق ما لا تطاله الا ارادة الله، ليس مرا فقط، إنما حنظل.. شري يشل الريق ويؤدي الى جفاف الحوار، فيشتجر المراجعون مع الطبيب، الملاك الحارس.. الرحمة المنقذ “وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان”.
في نوع من دراسة ميدانية، أجريتها متحريا، عما تعرض له الأطباء، من مشاكل مع ذوي المرضى؛ توصلت الى أن معظم الناس يظن الشفاء رهين بالطبيب، وأنه قادر على إحياء الموتى، كالسيد المسيح.. عليه السلام.وهذا شعور إيجابي؛ لأن ثقة المريض بطبيبه، مهم في قطع مراحل واسعة، من شوط العلاج، بالمقابل بعض الأطباء مزحوم بمرضى تكتظ غرفته بتأوهاتهم، تقطع نياط القلب، فينتابه نوع حزن لأجلهم، يدفعه الى قسوة غير مقصودة… لا يجد لها هو نفسه تفسيرا؛ سرها كامن في النظام الطبي المتبع؛ لأن المواطن العراقي.. والشرقي عموماً، لايكلف نفسه عناء الفحص الدوري، مرددا جملة مغرقة بالجهل: “إشوكت ما جاءت المنية؛ فمرحبا بها”.هذا كلام لا يقال في القرن الواحد والعشرين، مثلما هناك أطباء مستفزين بتعاليهم، الذي يصيب المرضى بإنتكاسات، يحارون في تفسيرها أيضا، فالعلاقة جدلية.. طبيب عالم ومريض متعاون، يؤديان الى شفاء عاجل، بجهد مكثف من الطبيب وألم أخف على المريض.
منظمة متخلفة
لكن هل الخدمة الصحية جاهزة ومؤمنة، في دولة، لا توفر وزارة الصحة فيها، الا 20 بالمئة من الحاجة الفعلية، و75 بالمئة تتحول الى إهمال ونقص بالادوية والأجهزة والملاكات البشرية، بتخصصاتها ودرجاتها الوظيفية ومهماتها كافة.تمارس الوزارة، نوعاً من خدمات طاردة، تبقي العوز شاغرا يفغر فاه، بنسبة 75 بالمئة نتيجة سوء التخطيط والفساد؛ لذا أداعي بإعادة مستشفيات الرشيد والقوة الجوية وحماد شهاب والرشيد العسكري، وسواها من مستشفيات أهملت، بعد 2003 فربما يتصاعد الامر، إن لم توضع حلول لتلافيه. المستشفيات تعاني من نقص في أعدد الاطباء والملاكات الوسطى، في وقت يوجب العالم المتحضر، إجراء تحقيقات للإطلاع على واقع حياة الناس؛ لتوسيع الخدمات.. من كهرباء وطلبات أخرى.فمثلا 1000 شخص يعاينهم.. دوريا.. طبيب واحد، يزورهم في البيت، سواء أكانوا مرضى أم أصحاء؛ بغية تلافي أية أعراض، منذ البدء… لو إتبعنا جزءاً من ذلك، ما إكتظت المستشفيات بالمراجعين، يتدافعون،…إذن المشكلة في القرار الإداري للدولة، وما الطبيب والمريض الا ضحاياه، وشجاراتهم ناتج عرضي لتخلف المنظومة الصحية برتكولياً. لينجح الطبيب في اداء عمله متفوقا، ويتلقى المراجع علاجا شافيا، لا بد من طبيب أسرة، واحد لكل 1000 نسمة، بالغا 35 ألف مختص بطب المجتمع، حسب عدد سكان العراق! بينما الواقع يقول ليس لدينا، سوى 200 طبيب معني بطب المجتمع. توفير شيء من هذا القبيل، يمكّن الطرفين.. المعالج ومتلقي العلاج.. من التفاهم الثنائي، بغية الوصول الى أقصى فائدة ترتجى، ما يعني أن مستشفياتنا بحاجة لـ 34 الفا و400 طبيب متخصص بطب المجتمع، وممرضات وممرضين ومعينين وسواهم من إشتمالات عمل وزارة الصحة، بإعتبارها القطاع الأشد تماسا مع حياة الناس.أما كيف يتفاقم الموقف، بين الطبيب والمراجعين؛ فنتيجة عدم جهوزية المستشفى، وقسوة الألم على المريض؛ ينفلت السلوك من عقاله، تبادلا بين الاطباء والمرضى،… تتضافر أسباب الزحام، وإنقطاع التفاهم، بين الطبيب ومرضاه، على تحميل الامور أكثر من محمولها.فالعراقيون لا يلتزمون نظام التحويل، حسب مراحله المتبعة عالميا: الاولية والثانوية، صعودا الى الكبرى، والمستشفيات تعاني نقصا حادا في عدد الاطباء، وثغرات إدارية وشحة في الأدوية والمعدات، لا يسأل عنها المريض طبعا، ولا الطبيب، إنما هي حق واجب لكليهما، على الحكومة، ممثلة بالوزارة المعنية.لا أدافع عن طبيب، إشتجر مع مرضاه؛ لأنه ملام.. سواء أكان ظالما أم مظلوما؛ لأن المريض يريد طبيبا يهدئ روعه، ولا “يتعارك” معه.. العلاقة الحميمة بين الطبيب ومرضاه، تسرع في العلاج، إقترابا من إكتساب الشفاء التام.تلك الحميمية، دفعتني الى الإعتذار عن الدعوات الدراسية، وفرص العمل في دول فاحشة الثراء، براتب مغرٍ؛ لأنني أؤمن بوجوب المكوث بين أهلنا، أغدق عليهم نزرا من سعادة الثقة، بطبيب ناضج العمر يعرف ما يفرح أبناء قومه، ويتفهم ظروف عمل زملاء مهنته.
مقالات اخرى للكاتب