الصراع المُحتدِم بين المبادئ من جهة والإنتهازية من جهةٍ أخرى .. قديمٌ قدم الإنسان ، وسوف يبقى هذا الصراع موجوداً .. إذ كما يبدو ، أنه جزءٌ من طبيعة الحياة نفسها .. فلكي يبرز شخصٌ مبدئي شريف ، ينبغي ان يوجد شخصٌ آخر غير مبدئي وغير شريف ، حتى يُستطاع المُقارنة بينهما . والتأريخ يزخر بالكثير من الأمثلة ، التي دفع فيها " المبدئيون " حياتهم ثمناً ، للتمسُك بالقِيَم التي يُؤمنون بها ، أو على الأقل تَخّلوا طوعاً عن مباهج الحياة وإغراءات المال والجاه والسُلطة . ولكن المُلفِتْ ، وعلى مدى التأريخ ولغاية اليوم .. أن عَدد هؤلاء المتمسكين بالمبادئ والقِيَم .. قليل ، بل قليلٌ جداً مُقارنة بالطرف الآخر ، أي الإنتهازيين من كُل الأصناف : أي المُتلونين والمتاجرين بشعارات الوطنية والقومية وراكبي موجة الدين السياسي والطائفية والمُدّعين والمُنافقين والهاربين من أول مُواجَهة والمنبطحين والمُنشغلين بِجمع الأموال بِطُرقٍ مشبوهة وغير شرعية وخائني الأمانة ... الخ .
في العديد من المُفترقات ، قديماً وحديثاً .. يُخّيِر الحاكِمُ المُستبدُ ، الأسيرَ أو المُعارِضَ .. بين أن يتخلى عن ما يُؤمن به من مبادئ ويُعلن ذلك على الملأ ، فينجو .. أو يتعرض الى العقوبة والتضييق والمُحارَبةِ أو رُبما الموت .
وذاك الرسول " محمد بن عبد الله " يرفض عَرض شيوخ وأثرياء قُريش ، بالتنازل عن ما يدعو إليهِ ، مُقابل حصوله على الجاه والسُلطة ، يرفض ، حتى لو وضعوا " الشمس في يمينه والقمر في شماله " .. وذا حفيده " الحُسين بن علي " ، لا يقبل التراجُع عن ثورته ، رغم تَخّلي الناس عنه وتَركه وعائلته وحيداً ، ولايقبل العودة الى دياره ذليلاً ، وفّضلَ الشهادة على ذلك . ورغم ماكنة الإعلام الديني والمَذهبي والقومي والعشائري ، طيلة قرونٍ طويلة .. التي أضافتْ وشطَبَتْ وتدخلتْ حسب هواها و حّورتْ وهّذبتْ وزّيفتْ وطّعمتْ الحوادث بالكثير من الخيال ، فأنه ، لا جدال في عبقرية مُحّمد ، ولا في قُدرة الدين الذي دعى إليهِ ، على الإنتشار والديمومة لحد يومنا هذا .. ولا جدال أيضاً في مبدئية الحُسين الفّذة وشجاعته وتضحيته .
وفي العصر الحديث ، هذا " يوسف سلمان أو فهد " ورفاقه ، يستنكفون التنازل عن معتقداتهم ، مُقابل العفو عنهم .. وفّضلوا المشنقة على الخنوع . وذاك أيضاً " حسين الرضي أو سلام عادل " .. يبصق في وَجهِ سّجانه ، الذي إقترحَ عليهِ تقديم البراءة ، ويدفع حياتهُ ثمناً لمبدأيته . وهاهو " تشي جيفارا " يترك السُلطة والمنصب والراحة في كوبا المُحّرَرة ، ليُحارِب الفاشية والمُستبدين أينما كان في أفريقيا وأمريكا اللاتينية .. دفاعاً عن المُستضعفين ، حتى قُتِلَ مرفوع الرأس .
.........................
الأمثلة أعلاه ( رغم إختلاف الأزمان وتبايُن الأفكار فيما بينهم ).. تجمعهم صفة مُهمة ، ألا وهي أنهم كانوا مبدئيين ، لم يُساوموا على حساب مُعتقداتهم التي آمنوا بها .. وكذلك لم يُناضلوا من أجل مكاسب وإمتيازات شخصية ، ورفضوا كُل المُغريات وسطوة المال وجذب السُلطة ورفاهيتها .. وضّحوا بحياتهم في سبيل الآخرين وفي سبيل المُعتقدات والمبادئ .
........................
الكثير الكثير من المُتحدثين اليوم ، بإسم مُحّمد ، زوراً وبُهتاناً .. لاينتهجون ما دعى إليه من مبادئ الرحمة والعدالة والإنسانية .. بل يحملون رايات التعصُب والتشدُد والفُرقة ، مُستخدمين إسم الله ومُحّمد في القتل والذبح والتنكيل . والكثير الكثير من مُدّعي حُب الحُسَين ، اليوم ، منافقون يعملون بالعكس من ثورته ضد الظُلم ، ويستغلون إسم عليٍ والحُسين ، من أجل مآربهم الدنيئة والحفاظ على السُلطة والإمتيازات والضحك على ذقون البُسطاء .
والكثير من الذين كانوا منتمين للتيار الشيوعي والإشتراكي ، تَبَينَ انهم بعيدونَ كُل البُعد .. عن مبادئ فهد وسلام عادل وجيفارا .. مُفّضلين الحياة السهلة والمُريحة ، وباعوا المبادئ بأبخس الأثمان .
..........................
ليسَ المطلوب من الجميع ، ان يكونوا الحُسين أو جيفارا .. ولكن على الأقل ، إحترام الذات ، يتطلب التَحّلي بِقدرٍ معقول من المبادئ الرصينة وعدم الحياد عنها .
مقالات اخرى للكاتب