هذه هي الحلقة الثالثة والأخيرة من سلسلة "مثقفينا.. النجدة!" وقد ناقشنا في الحلقة الأولى:“مثقفينا .. النجدة! .. القصف المعادي يسحقنا – الجزء الأول” (1)على الموقف من الطائفية والفساد والإرهاب والإعلام المعادي، وفي الحلقة الثانية:“مثقفينا... النجدة! 2- الدين والسياسة وكردستان(2) ”كان التركيز على الموقف من نقاط العنوان الظاهرة، واليوم نكمل المناقشة والبحث عن موقف المثقف من بقية المواضيع.
إسرائيل
يفتقد المواطن العراقي اليوم إلى اية رؤية حقيقية تساعده على التعامل مع موضوع إسرائيل بشكل موضوعي. فالشباب عاشوا فترة لم يكن التركيز فيها على هذا الموضوع ولم يعط أهمية تستحق الذكر وكانوا مشغولين بالمهموم الداخلية المباشرة، والكبار أصابهم الإرهاق من كثرة ما قرأوا في الماضي وكراهية ما قرأوا في الماضي و "عدم الجدوى" المصاحب لأي حديث عن جرائم إسرائيل وعنصريتها الخ. إضافة إلى هذا فأن الأمة العربية تعيش مرحلة استسلام تدريجي للضغط الإسرائيلي، الذي استلم السلطة في عدد من الدول العربية أو قام بتحييدها. وفي العراق استغلت إسرائيل الإحتلال لتمد جذورها في هذا البلد الذي بقي منيعاً عليها، ولا ندري إلى أي مدى وصلت هذه الجذور. لكننا نعلم أن ممثل إسرائيل العلني مثال الآلوسي قد وصل ثانية إلى البرلمان، ونعلم أن كردستان لا تفوت أية فرصة لفرض التطبيع ليس فقط بين كردستان وإسرائيل بل بين العراق وإسرائيل، وهناك سلسلة من عمليات "المصافحة" "بالصدفة" إضافة إلى كل تصريحات قادة كردستان. ولا ننسى التطور الخطير والمخزي لبيع النفط العراقي من خلال كردستان إلى إسرائيل، وعدم محاسبة كردستان عليه، في ذات الوقت الذي تشن فيه إسرائيل واحدة من سلسلة هجماتها التاريخية الدموية على الشعب الفلسطيني ليستخدم النفط العراقي لتحريك آلة الإجرام.
بعيداً عن كل هذا وبعيداً حتى عن الضمير الإنساني الرافض لهذه العلاقة البشعة مع أشد الدول عنصرية في التاريخ، نقول أن العلاقة مع إسرائيل علاقة خطرة للغاية على السيادة الوطنية وعلى مستقبل البلاد، فإن كل القراءات للتاريخ الحديث تشير بوضوح أن إسرائيل إذا دخلت بلداً أستولت على السلطة فيه. ولا ينطبق ذلك على الدول العربية وبلدان العالم الثالث فقط، بل أيضاً على أميركا وأوروبا أيضاً.. إن متابعاتي تؤكد أن حكومات الغالبية الساحقة من هذه الدول تضطر إلى وضع مصلحة إسرائيل فوق مصالحها القومية، فكيف ببلد مثل العراق؟ المثقفون مدعوون إلى استمرار قراءة إسرائيل والكتابة عنها، رغم ما قد يلقونه من ردود أفعال سلبية سواء من المروجين لإسرائيل أو من الناس التي ضجرت وفضلت ترك الأمور تسير نحو نهاياتها.
العلاقة مع أميركا
الحقيقة أن هذا الموضوع ليس بحاجة إلى من يشجع على الكتابة فيه، ورغم ذلك نفتقد الجهد الجاد لدراسة التاريخ الأمريكي ودراسة الحاضر الأمريكي لتحليل ما يمكن أن يكون الهدف الحقيقي الذي يشغل صناع السياسة في اميركا، من تواجدهم في العراق. إن كتباً مثل كتب جومسكي (المتوفر العديد منها بالعربية) أو "قتل الأمل" (وليام بلوم) أو "التاريخ المستور للولايات المتحدة"، يمكن أن تكون مصادر رائعة لإثراء الكتابة حول حقيقة الأجندة الأمريكية في العراق، وأصولها التاريخية والإقتصادية الرأسمالية، وتجارب بقية شعوب الأرض في التعامل مع أميركا، وبشكل خاص دول أميركا الجنوبية والوسطى والتي تسميها الولايات المتحدة "حديقتنا الخلفية" ومدى ما عانته وما دفع بتلك القارة أن تصطبغ بالأحمرين: أحمر الدم، وأحمر الرد اليساري على أميركا.
المجتمع العراقي
يمر المجتمع العراقي بلحظة تاريخية شديدة الإضطراب، ومن الطبيعي أن تثير مثل هذه المرحلة الكثير من الأسئلة الخطيرة التي يجب أن لا تترك للإعلام المعادي ليجيب عنها ويثبت ما يريد في ضمير هذا الشعب حولها. لقد كتبنا الكثير حول هذا الموضوع، وتبقى الأسئلة الكبيرة التي نرى أن الإعلام المعادي يسعى للإنفراد بالإجابة عنها مثل "تاريخنا ومدى اعتزازنا به؟".."العلاقة بين العلمانيين والمتدينين"؟ والتي كتبنا عنها في الحلقة الماضية بتفصيل، "هل تخدم السخرية والجلد التقدم أم العكس؟" .. "هل تعتبر النكتة فعلاً "مقاومة" ونوع من الإحتجاج المناسب؟ أم أنها تسلية وجلد للذات؟ ومتى تكون هكذا ومتى هكذا؟..."هل نحن فعلا أكثر عنفاً من غيرنا؟". إن قراءي يعلمون أنني أتبنى مواقف معاكسة تماماً لمعظم الآراء المنتشرة بخصوص هذه النقاط، لكني لم أكتب هنا لكي أطرح أفكاري بل للدعوة إلى القراءة الجدية والتفكير والكتابة ولو بشكل موجز، لكي لا تترك الساحة الثقافية لأعداء الشعب. ولعل أهم سؤال يتوجب على المثقف السعي للإجابة عليه لإنقاذ مجتمعه هو :"ما الحل لحالة اليأس الشعبي؟"...
الديمقراطية
يجب أن نتذكر أن الديمقراطية التي قدمت لشعبنا هي الديمقراطية التي تريدها أميركا لشعبنا. الديمقراطية يفترض بها أن تسلم الشعب السلطة على البلاد، لكن كيف تسلم أميركا السلطة على البلاد لجهة تتخذ منها موقف الكراهية والخوف بنسبة 85% حسب إحصاءاتها ذاتها؟ هذا التناقض يستحق كل الجهد لبحثه ودراسة بعض تجارب الشعوب الأخرى التي مرت بحالة مماثلة، ثم الكتابة عن ما ينتظر للعراق من الديمقراطية التي تأتي بها أميركا والتي تستمر تحت الضغط الأمريكي المتمثل بالتأثير، بل وحتى تغيير الحكام المنتخبين من خلال وسائل مختلفة، وكان آخرها استيلاء كردستان على السلطة واستبدالها المرشح الطبيعي بآخر يناسبها، ووضع وزراء لا ميزة لهم إلا "قربهم" منها.
ويمكننا أيضاً أن نستدل على الكثير حول الديمقراطية الأمريكية من خلال دراسة الديمقراطية التي في أميركا ذاتها وإلى أين يدفعها ضغط النظام الأمريكي الرأسمالي. وهنا أيضاً لدينا في كتب جومسكي مصدراً لا يضاهى لفهم ما يجري في أميركا، إضافة إلى كتاب آخرين كثيرين مثل نعومي كلاين وهوارد زن وغيرهما..
إن الفرق بين الديمقراطية الحقيقية وبين النسخة الأمريكية المقدمة للعراق فرق هام جداً، وعدم وعيه يمثل خللاً خطيراً، لكنه ليس أخطر الأمور في هذا الموضوع ولا أكثرها اساسية. المفهوم الأساسي الخاطئ لدى الشعب العراقي حول الديمقراطية هو عدم إدراك الفرد العراقي بأنه من حقه وواجبه أن يحكم! إنه يعامل الديمقراطية كنظام يجلب حكاماً لطفاء يعملون لمصلحته دون أن يحتاج لبذل جهد أكبر من التصويت. المفهوم الأساسي الذي يجب تصحيحه من قبل المثقفين هو أن الديمقراطية نظام "يتيح" للشعب أن يحكم، إن أراد فعلاً أن يحكم، وليس نظاماً يقدم الحكم للشعب على طبق من ذهب. ولكي يحكم الشعب فعليه أن يقوم بواجبات الحاكم، وأهمها مراقبة وإدارة من يعمل تحت حكمه من ممثليه في الحكومة ومجلس النواب وغيرهما من المؤسسات، وأن يكون حاسماً في الإختيار وفي إزاحة الخطأ وحريصاً أن يضع الشخص المناسب في المكان المناسب وأن يعطيه الصلاحيات الكافية لتنفيذ إرادته ، إرادة الشعب، لا أكثر منها ولا أقل.
إن الخلل الخطير في هذا المفهوم يقع على عاتق المثقفين. فنحن مازالنا حتى اليوم، مثقفين وغير مثقفين، نكيل السباب أو نندب حظنا العاثر للحكام السفلة والوزراء السفلة والنواب السفلة الذي "تسلطوا" على الحكومة..
إن الحاكم الحقيقي لا يفعل ذلك! إنه ينتفض غضباً على نفسه وسوء إدارته وقلة همته ويركض لإصلاح الخطأ الذي تسبب إهماله به. إن الحاكم الحقيقي لا يمكن أن يسمح بمهزلة التصويت السري لممثليه في مجلس النواب، بل يريد أن يعرف تصرف كل نائب وضعه في هذا المنصب وهل يصوت حقاً على القرارات كما وعده أم أنه يتصرف كمرتشي؟
وإن كانت الإنتخابات هي عبارة عن "أوامر تعيين" يقوم بها الحاكم، فإن الحاكم الحقيقي لا يمكنه أن يلتفت بعيداً عن حقائق التزوير في الإنتخابات، والتي تمثل استبدال خطاب التعيين بآخر من قبل جهة ما. ولا يمكنه أن يدير رأسه بعيداً عن تغيير رئيس الحكومة بطرق مشبوهة مثلما حدث للجعفري سابقاً وحدث للمالكي مؤخراً! إن شعبنا يتصرف كحاكم ضائع ضعيف الشخصية تسيره الشخوص التي وضعها في الحكم ولا يسيرها هو، تماماً كتصرف حكام الإمبراطوريات في نهاياتها، وعليه أن يتوقع نفس النتائج الكارثية لبلاده، والتي تحل بالإمبراطوريات التي وصلت إلى نهاية عمرها.
أين جهود المثقفين في هذا الأمر الخطير؟ إني لا أراها...!
الإقتصاد
هل "إقتصاد السوق" الذي يروج له الإعلام وعدد من النواب والساسة "التجار" وكل نواب كردستان في مجلس النواب العراقي بلا استثناء، هو في صالح العراق ووضعه الإقتصادي؟ إلى أين يقود مثل ها الإقتصاد مثل هذا البلد؟ هل يسير به نحو التنمية ويعد بجعله ياباناً ثانية أو كوريا جنوبية أخرى أو أحد النمور الآسيوية، أم أنه وصفة كارثة حتمية قادمة؟ هل الإندفاع ضد الإقتصاد المخطط والحمائي، صحيحة ومبررة لبلد متخلف يريد أن ينمو؟ يتحدى البروفسور نعوم جومسكي أي شخص أن يذكر له بلداً واحداً نما اقتصادياً على أساس حرية السوق، ووصفها اقتصادي آخر فائز بجائزة نوبل للإقتصاد بأنه أشبه بـ "ركل السلّم" بعد الصعود.. أي أن الدول المتطورة، وبعد أن أكملت تطورها بمساعدة سياسة اقتصادية حمائية عالية، فرضت نظام حرية السوق فركلت السلم الذي صعدت به لكي لا يصعد الآخرون خلفها.. هل هؤلاء مخطئين حقاً وأن اقتصاد السوق هو السبيل إلى التنمية؟ أين جواب اقتصاديي العراق على ذلك؟ وإذا كانت حرية السوق مبدأً إقتصادياً صحيحاً، فلماذا فرض علينا فرضاً في الدستور الذي كتب في الغرف المظلمة؟ هل خشية أننا كجهلاء أن لا نعرف صالحنا وقد نغير رأينا ونؤذي اقتصادنا، أم خشية أن نحس يوماً بأذى السوق ونحاول انقاذ بلادنا فلا نستطيع لأن الدستور سيقيدنا؟
من الناحية الثانية، هل أن انفتاح العراق بهذا الشكل وسلطة بنك جي بي موركان على سياسته المصرفية، واستقلالية البنك المركزي وحصانة اعضائه حتى من المحاسبة، هي سياسة اقتصادية ومالية صحيحة؟ ما هي قوة النظام المصرفي العراقي أمام الأزمة القادمة قريباً والتي تمتص من كل البلدان قيمة ثرواتها المالية وتسبب الإنهيارات؟ أين اقتصاديينا من هذه الأسئلة وبماذا يلهون نفسهم بدلاً منها؟
البلد يتعرض لمؤامرة رهيبة متسارعة تصل اليوم إلى آخر مراحلها، حيث وقعت الحكومة العميلة لأميركا والذيلية لكردستان، وبعد سلسلة قرارات شديدة السرعة بالخضوع لصندوق النقد الدولي وإعادة القوات الأمريكية إلى البلاد وتعيين عملاء كردستان في المواقع الحساسة التي تهمها، وقعت تواً الإتفاق النهائي حول المشكلة النفطية مع كردستان، فهل يعرف الناس كيف جرت تلك الإتفاقية؟ هل يعرف الناس ماهي "مستحقات كردستان"؟ ما هي حقيقة "الخلاف" بين بغداد وأربيل وإن كان أحدهما محقاً وفي أي شيء؟ هل يدري حتى مثقفونا شيئاً عن قانون النفط الذي طبلوا له سنيناً ووصل التطبيل إلى ممثل المجلس الأعلى؟ .. لا أحد يعرف شيئاً، وأراهن على 99% من القراء، أنك يا عزيزي لا تعرف شيئاً ايضاً، رغم أنك من القراء الذين كلفوا أنفسهم بقراءة المقالات المتعبة!
إذن البلاد تسير كالمنومة مغناطيسياً، وكالسائرة في الظلام ولا يوجد ما يكفي ممن يكلفون أنفسهم بإشعال شمعة أو إضاءة مصباح ببعض الجهد وبعض الصدق. مصير ومستقبل البلاد وأجيالها تقرر في وضع ليس لدى الناس أية فكرة عن الصح والخطأ فيه، فكيف تمكن المتآمرين من تحقيق هذا الإنجاز الهائل الذي يترك لهم حرية الذبح بدون أن تحس الذبيحة بالسكين على رقبتها؟ من المسؤول عن هذا الوضع؟ كيف تمكنت أمم اخرى من الصحو والنهوض والعراق يسير من انهيار إلى انهيار اعمق ومن فضيحة إلى فضيحة أكبر؟ الجهل؟ كل الأمم يسودها اكثرية من الجهلاء، فلماذا الهزيمة تفغر فمها بكل سعته في وجهنا دون غيرنا؟ من المسؤول عن ترك السفلة يوقعون اتفاقياتهم بلا خوف أو خجل وبشروط تدميرية للبلد، لن تنتهي تداعياتها إلا بتحطيم البلاد إلى أجزاء صغيرة متناثرة ومتعادية، ويتركون كردستان تكمل مهمتها الموكلة إليها من إسرائيل بلا مقاومة وتتحول إلى هراوة إسرائيلية أمريكية على رأس هذا الشعب، تقرر له حكوماته فتعين من تشاء في أية وزارة وتطرد من تشاء إلى مكان لا يزعجها؟
كل شيء يتسارع وينهار ما لم يعي الشعب سريعاً ما يجري حوله ويتداركه. ولن يعي الشعب شيئاً مادام مثقفوه مشغولون بأمور أخرى ويتهربون من تعب الجهد الذي يتطلبه واجبهم في مواجهة الأسئلة الخطرة والبحث عن أجوبتها. أخوتنا .. الوقت ضيق والقصف الإعلامي المعادي الشديد والدقيق يترك الناس هائمة على وجهها لا تعرف ما هو الصحيح وما هو الخطأ وما هو المهم وما هو التافه وما هو الصدق وما الكذب. كل من هذا الثغرات شهادة إدانة ضد مثقفي هذا البلد، حراس المجتمع الذين تركوا نقطة حراستهم وأفسحوا المجال للثعبان أن يتسلل بدون ضجيج ويلدغ النائمين! وماهي إلا ساعات حتى يحس هؤلاء بأعضائهم تتفجر بعيداً عن أجسامهم لشدة السم... مرة أخيرة وبكل وضوح: أيها المثقفون... النجدة! إننا نغرق!
مقالات اخرى للكاتب