كَثُرتْ جداً الكتابات التي تتناول المسيره الى كربلاء واشتعل الاحتدام الفكري وتناقضت الاراء فما أن يتناول أحد الكُتّاب الموضوع من زاويته التي يؤسس لها يقوم الاخر أما بالرد عليه أو يقصيه ويفرض زاويه فكريه أخرى . وهذا سَبّبَ الكثير من التنظير الغير موضوعي والتيه الفكري السلبي , ولحقيقة أن الأقلام الحره غير مقيده بمفهوم فكري جمعي فهذا لايعني بأنها غير مسؤوله عما تطرحه من أتجاهات سائبه تفرط في اللاواقعيه والأفكار التي تختلج بروح الكاتب لتكوين موضوع يعتبر غير قابل للمراجعه من قبل الكاتب نفسه ليرى فيما بعد فتره من الزمن بأنه قد طرح موضوعاً لم يكن فيه موضوعياً وقد يعكس الزاويه التي كان ينظر من خلالها بدرجه تختلف حسب التنوع الفكري الذي يكتسبه خلال مسيرته الثقافيه وتأثير الاحداث من حوله وايضاً هناك التأثير الازدواجي والمزاجي وأنا ككاتب متواضع أعتبر ذلك التأثير مقدمه للنجاح ومن هذا المنطلق قررت أن أطلق مسيرتي الى كربلاء مشياً على الاقدام وأخوض التجربه وأرى الواقع من كل زواياه الواقعيه المختلفه .
كان الهدف من المسيره هو فهمها كما هي وقد هيأتُ سؤالين لأطرحهما على نماذج مختلفه من السائرين وفعلا سألت أيراني وباكستاني وسعودي وعراقي صاحب موكب وسيد معمّم وعراقي عادي وكانت الاجوبه أكثر أستيفاء مما أردت وتكونت لي صوره واضحه عما يدور في فكر السائرين بعد حوارات عديده , وساكتب عن موضوع يأخذ هذا الجانب الروحي والشعائري والنهج الاصلاحي في مقال قادم أن شاء الله , ولكن هذا المقال والذي خصصته للممارسات والسلوك والخدمه والنظام قد أستبق ما كنت مخططاً له لهول ما رأيت من تراكيب صوريه علقت في الذاكره وسأطرحها وبدون أي تحفظ لكونها صادقه وغير مبالغ فيها نهائيا .
حسناً كنت قد تحضّرت للمسيره لأكون واقعياً فأشتريت دشداشه مأئلة السواد وكوفيه الزياره وملابس داخليه ونعلٌ خاص للسائرين , بدأت المسيره من النجف بعد زيارة العتبه العلويه , أخذنا نسأل عن الطريق الذي يسلكه السائرون الى كربلاء , لاتوجد علامات معلقه ولا علامات أرضيه تدلنا على ذلك , سرنا مع السائرين بعد السوال لأكثر من شخص ثم توجهنا الى مفترق طرق ولولا شخص واحد كان واقف بدون ملبس مميز لذهبنا الى الكوفه بدلاً من كربلاء , الحمد لله والشكر , أستدلينا على الشارع الذي ما أن تبدأ من مقدمته فأنك لن تضيع لوجود أرقام على أعمدة الاناره وعددها 1295 الشارع الذي نسير فيه مقطوع من السيارات , الكثره كانت للأيرانين فغلبة عددهم واضحه أكثرهم يسير بمجموعات ويطلقون الشعارات التي تمجد خامنئي وصوره كانت على خلفيات حقائبهم وبعض الصور كانت تُدين أسرائيل وكانوا يطلقون تلك المواويل العزائيه وهي جميله باللغه الفارسيه , من عمود رقم واحد الى أخر عمود كانت المواكب جنباً الى جنب تقدم الخدمات للسائرين ولعل أكثر ما رأيته من هذه الخدمات هو الطعام الذي يُقدم لكثرته وتنوعه , الرز والمرق أو الرز وعليه قطعه من الدجاج تَصدْر القائمه بصوره غير اعتياديه وكانت الفاصوليا والقيمه هي السائده وطبعا يختلف مذاقها من موكب لاخر وطرق تقديمها والطوابير التي كانت بانتظار ان يحصل السائر على كميه من الرز مخلوطاً معه المرق وربما علبه صغيره من الزبادي لايمكن الحصول عليها الا مع الطبق الرئيس , لن تتصورا ما موجود من طعام حتى تقومون بالتجربه التي قمت بها , الفلافل واللبلبي والبيض المسلوق والمقلي والتمر العادي والمغموس بالطحينيه والحلويات البسيطه مثل الزرده والحلاوه الصفره والداطلي الذي كان يصنع في العراء وهناك أيضاً الباقلاء بشكلها الاعتيادي والباقلاء بالدهن وعليها البيض المقلي , والكباب العراقي المشوي والمقلي وشاورما الدجاج واللحم , والسمك المقلي والمشوي رغم أني لم أراه شخصياً, والمشروبات من الماء والشاي بنوعيه العراقي الثقيل والايراني الخفيف وبعض العصائر والمشروبات الغازيه , والفواكه ايضا كان لها حضور من البرتقال واللالنكي والموز والتفاح وعلى قولهم كل شئ موجود , وكل ما كَثُر الطعام كثرت مخلفاته وبقاياه وعلى أمتداد الطريق وبمسير يومان ترى انقاض الاطعمه والاشربه وبقايا الخبز وحتى أحشاء الاغنام والعجول والجمال كانت من الصور التي لاتفارق السائرين ابداً وبعضهم كان يرمي المخلفات في الشارع الذي نسير فيه رغم وجود بعض حاويات النفايات .
ومن سوء الثقافه والجهل والهمجيه هو مارأيته من البعض الذين يأخذون الطعام وما ان يتذوقه ولايعجبه يرميه وفي أي مكان وقد لاتُصدّقوني اني رأيت بعض الاطفال يأخذ الطعام ويرميه ولايلمس منه شيئاً ورغم الحضور البسيط لاعمال النظافه فالحقيقه أن ليس هناك أي سيطره على المخلفات ما لم تكن هناك سيطرة ذاتيه من السائرين وهذا ليس موجود في الاعم الاغلب وكانت الانقاض والمخلفات مشهد يواكب السائرين حتى أن بعضهم يدوس عليه , أما توزيع الطعام فكان حقاً لايشعرنا بالحسيّه الدينيه لتلك المسيره , وقد أختلفت بأشكال وطرق مختلفه بين من يرفع صوته على السائرين كونهم يتزاحمون وبين من يتوسل بك بألحاح شديد وبين من يقول لك أن كنت تحب الحسين يجب أن تأخذ ما يعمله وبين ما يكون الرياء هي الصوره التي يمكن أن تطلق عليه فهو يأتي بالطعام بصينيه كبيره أو صغيره حسب نوع الطعام ويضعها على رأسه ويجلس في منتصف الطريق ويصيح أهلا بالزوار والغريب أني رأيت طفله قد لايتجاوز عمرها عن خمس سنوات ترتدي السواد وتضع على راسها صينيه فيها تمر وبعض السائرين يصوروها والله أنه رياءٌ ما بعده رياء , وهناك أيضا من كان يرمي الفواكه أو العصائر أو المعجنات المغلفه كالبسكت وغيرها على المحتشدين , وقد بقيت أشاهد أحد أصحاب المواكب كيف أنه لبس حزام عريض وصعد على طاوله كان يوزع عليها نوع اخر من الطعام ولازالت بقاياه على الطاوله وتناول صندق اللالنكي ووضعه على كتفه وأخذ يرمي به على المحتشدين والبعض تناثر على الارض والايادي تتسابق لالتقاطه علما ان هذه الفاكهه رخيصه جدا لايتعدى سعر الكيلو الواحد منها ألف دينار عراقي وهو ثمن بخس لكي يلهث السائرين عليه بدلاً من شرائه , هذا وغيره الكثير ناهيك عن أن أغلب اعمال الطبخ تتم في العراء والغسل غير صحي تماماً للطعام والاواني التي يتم فيها أعداد الطعام .
والخدمه الثانيه هي خدمة المبيت وهي متوفره ولكن باي حال فهناك هذه القاعات الكبيره والخيم والتي ليس فيها أي تهويه والروائح الكريهه حدث ولاحرج وهناك من يتحدث الى الصباح وهناك من لايتوقف عن الصياح ولم أنم لثلاث ليال متواصله من الشخير وأطلاق الريح وعلى قدم وساق وعندما لايكون هناك مكان في القاعات يكون النوم خارجاً في الهواء الطلق لابد منه , نعم تتوفر الاغطيه ولكن تصوروا أن ينام بحدود مئة شخص في قاعه واحده . ولايمكن بهذا الاختصار أن تعيشوا ما عانيته من هذه الخدمه الغير مريحه تماماً .
والطامة الكبرى هي الخدمات الصحيه فليس هناك مرافق يمكن أن نطلق عليها صحّيه بل أسوا من أي وصف يمكن أن تتصوروه والتزاحم على أشده بحيث لابد من أن تنتظر شخصين أو أكثر لكي تصل اليك هذه الخدمه , ولكن المثال الذي رايته في داخل مدينة كربلاء أصابني بخيبة أمل كبيره , فالتزاحم على المجموعات الصحيه التابعه للعتبه وصل بحيث لايمكنك الدخول الى داخل الكرفان الا بالتلاصق والتدافع مع الذين يريدون أن يخرجوا .
وخدمات النقل معدومه تماماً وسبب ذلك الخطه الامنيه حسب مايدّعون وعندما تريد العوده الى مدينتك عليك ان تقطع مسافة 22 كم بالسياره وعليك أن تسير ما يقارب 8 كم وبالنهايه هناك مرآب في قمة الفوضى حتى لاتستطيع أن تعرف السيارات التي تروم الذهاب الى مدينتك الا بشق الانفس واجور النقل كيفيه وليس هناك أي رقيب ولكن من جهة أخرى هناك النقل المجاني الذي عرفت ان العتبه هي التي هيأت له وهو عباره عن تريله طويله لنقل العائدين الى المراب ولم ارى أي شخص يركبها , وفي المرآب هناك هذه التريله الحاويه الطويله وأحدهم يصيح بانها مجاناً ولاراكب واحد صعد عليها , كل الذي كتبته باختصار شديد وتغاضيت عن الكثير والكثير من السلوك والممارسات التي لا أراها الا وهي تحتاج الى مراجعات لتلبس المسيره ما يليق بها .
وما لايسعه المجال سوف أتطرق أليه في المقال المقبل , وبعد هذه التجربه الواقعيه نستدرك ونتسائل عن قضيه مهمه وهي أن كانت تلك الممارسه الدينيه من شعائر الله حسب ما يذكره كل الخطباء والمرجعيات , وبشكل حيادي وموضوعي هل يمكن أن تكون الشعيره بدون ضوابط ولاتعليمات واضحه ولاتطبيق واقعي كأي شعيره من شعائر الله الاخرى , فأن كان هذا القول صحيح فلماذا لانؤسس الى أن تكون هذه الشعيره منظمه وترضي الله ونعدها من الاساسيات ونركز على تعليماتها وفقهها واركانها وما هو الواجب فيها والجائز وما علينا من أشكالات شرعيه عندما نحييها وبالتالي نؤديها بِنِيةٍ حسنه وبعمل مقبول لكي تُقبل منا , أما اذا كانت هذه الممارسات مقبوله ولايهم كيف يمكن أن تؤدى وبأي شكل فأني أرى نفسي وقد بالغت في الموضوع ولايحق لي البحث به أصلاً, وأني أدعو القراء والكتاب ممن يريد أن يطّلع على الحقيقه فماعليكم الا أن توافقوا على القيام بها في السنه القادمه مع أستعدادي لمصاحبتكم وسأصبح من المشّايه سنه ثانيه .
مقالات اخرى للكاتب