كنت في جولة بمعرض الكتاب المقام على هامش مهرجان الغدير العالمي فاستوقفني عنوان (الرسالة الصلاتية) لفقيه أهل البيت العالم المتهجد الشيخ يوسف العصفوري البحراني صاحب كتاب (الحدائق الناظرة) المتوفي سنة 1187، والكتاب يحتوي على تعليقات الشيخ محمد امين زين الدين، استوقفني العنوان وتذكرت كتابا قيما عن الصلاة حققه العلامة السيد حسين الشامي وجدت فيه فائدة عظيمة وامورا ملفتة للنظر ومدعاة للتفكر كما وتذكرت حاشية الشيخ الغروي على كتاب العروة الوثقى (كتاب الصلاة) المتضمنة لنكات عديدة فريدة تفتح مدارك السالكين. فاقتنيت الكتاب بثمن زهيد، وصار لي صاحبا اثناء تجوالي مابين النجف وكربلاء وبغداد ولقد أصر بناني على التأشير بالقلم على بعض المواضع التي تدعو الى التأمل والتفكر. وقد وجدت صاحب التعليق الشيخ محمد امين زين الدين يفترق عن البحراني في الرأي في أمور عديدة، كما أن المؤلف نفسه يذكر اقوالا عدة متعارضة في المسئلة الواحدة مما يؤكد عدم وجود نص جلي واضح عن المقام النبوي بغرض اتباعه بلا تردد لاسيما اذا استحضرنا قول النبي (ص) صلوا كما رأيتموني اصلي، فلا احد يستطيع ان يدعي رؤية الرسول وهو يصلي، وانما هي محاكاة لأباءنا وعلمائنا الذين تفرقوا فيما بينهم الى مذاهب ومشارب ولكل مذهب طريقته في الصلاة فلم يتفقوا حتى على البسملة هل هي جزء من السورة ام خارجة عنها ؟ وهل تلفظ ام لا ؟ وهل يخفت بها او يجاهر؟ ناهيك عن التفصيلات الاخرى للصلاة.
لقد اعجبتني مقدمة المؤلف وخاتمته المحشى بالسجع القويم المعبر عن قوة البلاغة والتمكن من الفصاحة.
وقد انكشف لي بأنه لايمكن معرفة كيفية صلاة النبي لان كل حزب يقدم كيفية معينة من الصلاة يؤكد في النهاية التعارض الموجود بين الروايات والتي قد تؤدي الى سقوطها جميعا، والامر لا يختص بالصلاة فحسب وانما بمقدمات الصلاة ايضا كالوضوء والاذان ، ويقول الشيخ البحراني في ص 17 (ان غسل اليدين اتفاقا نصا وفتوى مبتدأ بالمرفقين على الاظهر الاشهر فلايجوز النكس واما في غسل الوجه فأنهم جوزوا النكس وحول غسل الوجه مرة او مرتين قالوا غسل الوجه مرة والمشهور استحباب مرة ثانية وقيل بالتحريم وهو الاقرب عندي من الادلة ) فأي هذه الصفات هي صفة وضوء النبي ؟
والاختلاف بين العلماء كيفية الصلاة شمل كل شيء حتى مسح الرجلين وتعريف الكعب
ويرى الشيخ البحراني في ص 21 بأنه يستحب بدء الرجل في غسل اليدين بغسل ظاهر الذراعين في الغسلة الاولى وفي الغسلة الثانية بباطنهما مع انه يرى في ص 17 تحريم الغسلة الثانية.
وحول الجمع بين الصلاتين على سبيل العادة والدوام يورد الشيخ مسئلة تثبت عدم جواز الجمع مطلقا رغم جوازه احيانا لقول ابن عباس كنا نصلي مع النبي سبعا سبعا وثمانيا ثمانيا أي (احيانا وليس دائما)
يقول الشيخ في ص 24: ان من كان به سلس البول فأنه يتوضأ ويجمع بين الصلاتين بوضوء واحد ويصليها في وقت واحد ويفرد الصبح بوضوء، وهذا يعني بأن الجمع بين الصلاتين يجب ان يرتبط بأسباب منها الخوف والخطر والمطر بل وحتى الكسل إلا ان لكل صلاة وقته، وهناك نصوص تدل على افضلية التفريق بين الصلوات ذكرها صاحب من لايحضره الفقيه وغيره من ارباب الحديث. وقد رأيت رصد الاختلافات والتناقضات في الامور المتعلقة بالصلاة لاثبات ان معرفة صفة صلاة النبي باتت من المستحيلات ولا اهمية لأدعاء الكل وصلا بالحقيقة، ويقول الشيخ عن النوافل في صفحة 53: لقد ورد في الاخبار مايدل على الرخصة في سقوط بعض النوافل والنقصان عن أربع وثلاثين فروي انها ثلاث وثلاثون بأسقاط الوتيرة، وروي انها تسع وعشرون بأسقاط الوتيرة وأربع من العصر وروي انها سبع وعشرون وهكذا.
ولعل اكثر مايثير حنقي هو حمل بعض العبادات على التقية مع ان الامام صرح بكيفيتها لشيعته والعبادات من الاهمية بمكان بحيث لايجوز الاخبار للمخالف فضلا عن المؤالف بغير الصحيح لأنه نوع من انواع كتمان العلم فكيف يتم الافتاء للأصحاب بالعبادات بناء على التقية؟ ومثل هذا كثير في كتب الاصحاب وفي هذا يذكر الشيخ في ص 57 كلاما اراه خطيرا وهو: (والتحقيق ان جملة ما يمكن حملها على اخبار القول المشهور وما كان منها صريحا فهو محمول على التقية لأطباق العامة قديما وحديثا على القول بذلك وقد استفاضت الاخبار بالأخذ بخلافهم)، علما بأن هناك تشددا واضحا في العبادات لايتوافق مع الافتاء بغير الصحيح على سبيل التقية كما ان عبارة ودليله محمول على التقية تتكرر في اماكن عدة من الكتاب. وفي الكتاب امور كثيرة يجدر التوقف عندها والاسهاب فيها مثل القنوت وسأفرد بحثا للقنوت بعد ان تكون حاشية الغروي للعروة الوثقى في متناول يدي لأن فيها تفريعات شتى وروايات كثيرة.
ولكني اردت من تناول هذا الكتاب ان اتوقف عند امر يؤرقني دائما وهو صلاة الجماعة وشروط الامام وتعدد الصلوات في المراقد المقدسة في الوقت الواحد، يقول الشيخ في ص 121: إن الجماعة مستحبة في الصلوات اليومية استحبابا مؤكدا وقد ورد الحث عليها حتى استفاضت الاخبار بأستحقاق حرق بيت تاركها عليه مع تهاونه بها وسقوط عدالته ووجوب هجرانه وجواز غيبته مضافا الى ماورد فيها من الثواب العظيم والاجر الجسيم (انتهى كلام الشيخ). وقد رأينا بأن الاستحباب لايتوافق مع العقوبات الكبيرة المفروضة على تاركها من قبيل سقوط عدالته وحرق بيته، ولكننا نتجاوز هذا الامر الى ماهو اهم وهو امام الجماعة والشروط التعجيزية التي وضعها الفقهاء مما ادى الى عزوف الناس عن الجماعة والصلاة فرادى حتى داخل المساجد، انهم يريدون ان يكون امام الجماعة معصوما، فهو إذا كذب او ارتكب الصغائر سقطت عدالته، أ ليس كل ابن ادم خطاء؟ ويعضد هذا القول بان الشارع المقدس لم يبين الأخطاء والهفوات المسموح بها لأمام الجماعة والتي لا تسقط معها العدالة.
ومن الشروط التي ذكرها الشيخ هوان يكون امام الجماعة اعلم الموجودين وافقههم والبلوغ والعدالة وطهارة المولد بلا خلاف نصا وفتوى، ويجيز الشيخ امامة العبد شريطة ان يكون أفقه الجماعة وأعلمهم وهو شرط عجيب ليس أعجب منه سوى جواز امامة الاعمى اذا كان له من يسدده الى القبلة وهو تحصيل حاصل يستبعد صدروه من صاحب علم وفطرة. وفيما يخص طهارة المولد فهو امر ظاهري وتكلف واضح لايمكن التحقق منه ابدا.
وينقض شرط البلوغ روايات جواز امامة الصبي المميز المراهق وهي روايات أرجح من روايات المنع، وهل يقدم الصبي المراهق لعلمه او فقاهته او صباحة وجهه ام لحسن قراءته، اذن فأنه يجب ان يتقدم الاقرأ على الاخرين لعلاقة الصلاة بالقراءة الحسنة الصحيحة والصوت الشجي.
والشيخ يقول في ص 130: ثم انه يقدم الاعلم الافقه على الاظهر وفاقا لجملة من محققي متأخري المتأخرين ،وان كان خلاف ماهو المشهور فأنهم قدموا هنا ( الأقرأ ) على ( الاعلم) والادلة العقلية والنقلية تدفعه وقولي بتقديم الأقرأ يعضده الاشتهار وهو دليل قوي واذا تساوى الجميع في القراءة ولن يتساوون فالاعلم واذا تساووا ولن يتساوون فالاكبر سنا ، ولماذا التركيز على تحقيق متاخري المتأخرين وترك المتقدمين الذين يجوزون إمامة الصبي المراهق ، ثم يدخل الشيخ في اطناب لا طائل منه في تفسير المعنى المراد بالأقرأ وهل هو اتقان الحروف وإخراجها ومخارجها أو الأعرفية بالاصول والقواعد او الاكثر قراءة او الاجود بحسب طلاقة اللسان وحسن الصوت وجودة المنطق واللحن وكل هذا يختصره الشرح الصحيح المختصر للاقرأ وهو الاجود قراءة وأداء للفظ القران على الوجه الصحيح وهو اختيار الشيخ محمد زين الدين في الحاشية ص 130. وحول العدالة وهو شرط ومعضلة إلا ان يكتفى بحسب الظاهر وكفى ولكن الشيخ يقول في ص 123: والمراد بحسب الظاهر أن يكون الانسان معروفا للقيام بالواجبات العلمية والعملية والقلبية والقالبية مجتنبا للمحرمات كذلك غير مصر على شيء من الصغائر الخ ...ولأجل التوصل الى ذلك يقول: ولابد من نوع معاشرة وصحبة لمعرفة ذلك مع ان الاشتهار يكفي عن الدخول في تفاصيل قد تسوء الانسان ولاتسره وأعجب من كلامه (أن يكون معروفا بالقيام بالواجبات القلبية والقالبية) ولا أدري كيف السبيل الى الواجبات القلبية وهي قلبية مستترة لا يعلمها الا الله تعالى، وعلى العلماء إعادة النظر في شروط امام الجماعة والاجتهاد فيها بغية التسهيل ولتمكين الناس من الاقبال على الصلاة جماعة بدلا من الفرادى ليتحقق الهدف الأسمى في جمع الكلمة فضلا عن الثواب المضاعف.
وفي ختام الكتاب يدعو الشيخ البحراني الذي اتضح انه من الاخباريين يدعو الى الاخذ بالاحتياط في جميع الامور ويورد قولا للنبي عليه الصلاة والسلام رواه الامام الحسن عليه السلام (دع ما يريبك الى مالا يريبك) وهو قول لايناسب هذا المقام البتة، لأنه خلاف الاخذ بالاحتياط وهو تأكيد على ان الرسول الاكرم لم يخير بين أمرين إلا وأختار ايسرهما والعمل بالاحتياط عمل بما لم يؤد اليه الدليل.
ويقول الشيخ البحراني في الختام: ولنقطع الكلام حامدين للملك العلام على ما أفاضه من ضروب الانعام وأياديه الجسام التي من جملتها الفوز بسعادة الاختتام مصلين على نبيه واله عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام وأسأل المولى العلي القدير أن يقبل هذا الجهد من عبده الفقير الحقير والحمد لله رب العالمين.
وإذا وفقني الله تعالى واسعفني الوقت سأكتب رسالة في بيان اضطراب الاخبار في كيفية الصلاة الصحيحة مستفيدا من مجموعة روايات كتاب الصلاة لحريز السجستاني الكوفي وحاشية الغروي على كتاب الصلاة.
مقالات اخرى للكاتب