اعترف باني تعبت كثيرا في البحث عن عنوان يناسب المقال، وبقيت لفترة في حيرة من امري، واتساءل ايهما يأتي أولا المقال ام العنوان؟ وفي رحلة البحث عن الجواب وجدت نفسي قد بدأت بالكتابة مبتدئا بالأسئلة التي كانت ولاتزال تؤرقني وهي:
هل ما نفعله كل عام يفرح الامام الحسين عليه السلام؟
هل بلغ الرضا عنده مداه لهذا الذهب الابريز الذي يغلف المشهد المطهر من الداخل والخارج؟
هل تراه يبتهج بالسجاد الكاشاني الفاخر وبالموائد الممدودة في كل مكان وعليها ما لذ وطاب من الطعام والشراب؟
هل هو سعيد برؤية مواكب اللطم والزنجيل والقامات والمشي على النار؟
هل يتمنى ان يزيد عدد الزوار كل عام وتكتظ بهم طرقات كربلاء وازقتها؟
كل هذه الأسئلة وغيرها كثير جوابها النفي المطلق، لان الحسين لا يهتم بالمظاهر الكرنفالية أكثر مما يهتم بالإنسان، اذن ماذا يريد الحسين؟
اعلم جيدا والكل يعلم بان الحسين ما خرج الا لطلب الإصلاح في هذه الامة التي بدأت بوادر الفساد والتفسخ تظهر عليها ولكن الذي حدث هو الفاجعة بمقتل ابن بنت النبي الخاتم وحرق خيامه وسبي عياله وذراريه، فهل خسر الحسين الجولة؟ كلا لان الله تعالى أراد للحسين ان يحيا بعد مقتله واراد له ان يبقى خالدا في قلوب المنصفين وجعل من ذكراه ولائم فكرية وجامعات مفتوحة يهرع اليها الناس للتزود بكل ما هو نافع ومفيد، ولكن صاحَبَ هذه المجالس ممارسات أخرى تتناقض مع روح المجالس العلمية والفكرية المقدسة وفي هذا يقول اية الله محسن الاراكي الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية (ان قضية عزاء سيد الشهداء تعد أحد اهم وأبرز التوجهات الفكرية والسياسية والعقائدية المعاصرة وأكثرها اصالة)، ولكننا نرى انه بالرغم من انفاق المليارات سنويا على ما يسمى بالصناعات الحسينية والمجالس والمحاضرات والقنوات والمقالات والكتب والقصائد الا اننا لم نخلق المجتمع الفاضل المنشود ولا نصف المجتمع الفاضل وقد صارت مجتمعاتنا تحفل بالغش والخداع والنصب والاحتيال والسرقة والانحطاط الأخلاقي بدل الصدق والمروءة والإخلاص والايثار وغيرها من مكارم الاخلاق ،وخلق العامة لأنفسهم طقوسا غريبة اسموها زورا وبهتانا بالشعائر الحسينية ، وطلبوا تقديسها جميعا بلا تفريق بين الصالح والطالح وبين الحسن والسيء وجعلوها مثل شعائر الله يجب تعظيمها وشتان ما بين السعي بين الصفا والمروة امتثالا لأمر الله واتباعا لسنة نبيه وبين اللطم والتطبير التي ابتدعها البشر واضفى عليها هالة من القداسة الزائفة.
وصار الحسين يفرق الامة في كل عام بدلا من ان يجمعهم على دين واحد وشرعة واحدة ومنهاج واحد، وما ان يهل هلال المحرم حتى نرى الخلافات على الشعائر تظهر بحدة وشدة، فيتم نشر صور لعلماء اجلاء يحرمون بعض الممارسات ويعتبرونها امرا مشينا يسيء الى الدين والمذهب وفي الطرف الاخر يتم نشر صور لعلماء اخرين يؤيدون هذه الممارسات على الاطلاق كونها مرتبطة بالشعائر الحسينية ونظل نحن البسطاء بين مطرقة هذا الطرف وسندان الطرف الاخر لا ندري ماذا نفعل والى أي جهة نسير وصار احياء عاشوراء هدفا بحتا ، وقد دعا احد المراجع اظنه السيد كاظم الحائري الشيعة في جميع اقطار العالم الإسلامي الى تكثير وتوسيع مجالس الحسين عليه السلام في كل مكان دون ان يتطرق الى أهمية الالتفات لما يطرح في هذه المجالس وتهذيبها واصلاحها وتنقيتها من الشرك والغلو والمبالغات، علما ان هناك دعوات متواصلة واصيلة للإصلاح في المنبر الحسيني الذي صار يتعرض لانحراف واضح بسبب المستفيدين والمسترزقين، وصرنا نحيي المناسبة ولا نحيي امر الائمة كما هو في الحديث(احيوا امرنا رحم الله من احيا امرنا) وصرنا لا نعرف لماذا نحيي هذه الذكرى وآمنا بصحة كل طقس نقوم به بدل الايمان بمبادئ الحسين الواضحة السامية والذي يقول (ع)ألا ترون الى الحق لا يعمل به والى الباطل لا يتناهى عنه.
الحسين صار عَبرة ولكن ليس عبرة وعاشوراء صار موسما له خصوصياته الظاهرية التي تشبه كرنفالات الشعوب تتضمن الاستعراضات وممارسات شبابية حداثية، وصار الناس يفتخرون بالجنون الواضح في بعض الممارسات واسموا أنفسهم بمجانين الحسين وكأن الحسين يسلب العقل وليس العكس، هم يتبعون زورا عابس الشاكري في جنونه بالحسين وصاروا يهرولون ويركضون ويلطمون ويتفننون ويتمرغون بالطين ويمشون على النار مسيئين بذلك فهم كلام هذا البطل المغوار الذي دفعه جنونه بالحسين الى خوض اهوال الحرب والاستشهاد دفاعا عن الحسين ، يتبعون قول عابس بصورة مقلوبة ولا يتبعون الحسين الذي دعاهم الى مواصلة درب الإصلاح ومنعهم من الجزع وشق الجيوب وخدش الوجوه ونشر الشعور كما في وصيته لأخته زينب وهي وصية تنطبق على القاصي والداني ،وصار العوام يعتقدون بان الحسين هو شافي المرضى وقاضي الحوائج وحلال المشاكل وصاروا يأتون اليه بحوائجهم ثم ينصرفون دون ان يولوا عملية الإصلاح أي أهمية تذكر.
وامام سيل الكتابات والادبيات التي تفرزها المطابع كل سنة وفيها تمجيد وتخليد لم يفكر أحد بسبب الإخفاق في خلق المجتمع الفاضل وهل تحققت النتائج المرجوة من كل هذا الجهد وهذا الانفاق وتلك الممارسات ؟ولماذا لم يتحقق، والجواب ببساطة هو اننا كلنا نعمل للحسين ما لا يريده منا، ونحن لم نفهمه ولم يفهمنا وكل واحد منا أصبح في واد، وصرنا ضحية لكابوس اسمه التناقض وقد اعجبني في هذا قول للشهيد محمد باقر الصدر: أعجب مظهر من مظاهر الانهيار هو التناقض الذي كان موجودا بين قلب الامة وعواطفها وعملها ، هذا التناقض الذي عبر عنه الفرزدق بقوله للإمام الحسين عليه السلام (ان قلوبهم معك وسيوفهم عليك).
لقد قتل الاسلاف الحسين ثم بكوا عليه ونحن نقتل اهداف الحسين ونبكي عليها، ويقال بان الجيش الاموي بما فيهم عمر بن سعد بكوا على الحسين في كربلاء وفي الكوفة والشام، ثم يقول الشهيد الصدر: يجب ان نتأمل في سلوكنا، يجب ان نعيش موقفا بدرجة أكبر من التدبر والعمق والاحاطة والانفتاح على كل المضاعفات والملابسات لكي نتأكد من اننا لا نمارس من قريب او بعيد بشكل مباشر او غير مباشر قتل الامام الحسين عليه السلام.
لقد كنت اتخيل بعد التغيير الذي حصل في العراق وسقوط النظام بان الحكم سيعود فورا الى الامام الحسين وانه سيحكم فينا من خلال تعاليمه بالعدل، ولكنه عاد شهيدا مظلوما أكثر مما مضى، لأننا لا نريده ان يعترض على معاناة الجياع وانات الثكالى والارامل وآلام المرضى وحيرة الفقراء ما دمنا قد كسونا ضريحه بالذهب الخالص والسجاد الفاخر والرخام اللامع وأنرنا مرقده بالأضواء الملونة رغم انقطاع الكهرباء عن احياء كثيرة في كربلاء خاصة وفي العراق عامة.
سلام عليك يا سيدي يا أبا عبد الله المظلوم ابد الدهروعلى المستشهدين بين يديك ورحمة الله وبركاته
مقالات اخرى للكاتب