أمس إستمعت إلى حديث الدكتور العبادي في مجلس النواب .. كان الرجل هادئا مبتسما ومعقولا وأجد أن ليس من العدالة ولا من الحكمة أن لا نقول بحقه كلمة حق.
في الحالة التي نحن عليها لا يصح مطلقا ان تكون لنا مواقف أيديولوجية مغلقة تساوي بين الجميع دون تقدير لمن يحمل شمعة في وسط ظلامنا الدامس, كما أن من المهم أن نحدد مساحة خصوماتنا بحيث لا تتحول من خصومة ضد الدولة إلى خصومة ضد الوطن.
لا أعلق على العبادي أمل أن يخرج بالعراق كاملا من أزمته الخانقة, فهو في النهاية إبن لتجربة ونظام تأكد عجزها البنيوي عن تقديم حلول إجتماعية وسياسية كفيلة بتحقيق نهضة عراقية حقيقية, بل وتأكد أيضا أنها هي التي أسست لتلك الأزمة. غير أن ذلك لا يلغي الحاجة إلى إدراك أن المعركة الحالية مع داعش هي مواجهة مع قوى تستهدف شروط الحد الأدنى من الوجود العراقي. ومن الضروري معرفة أننا خرجنا الآن على الأقل من مساحة المواجهة مع طبيعة دولة ونظام إلى مساحة الدفاع عن وجود وطن وبقاء إنسان, أو فلنقل أننا بتنا نعيش تناقض الساحتين معا..
في المساحة الأولى فإن من حقنا أن نختلف مع شكل الدولة وطبيعة النظام السياسي بكل ما تحتويه تلك المساحة من تناقض بين الدولة العلمانية الوطنية التي نؤمن بها وبين دولة الإسلام السياسي الطائفي التي تأكد أنها عاجزة عن الوفاء والتناغم مع إحتياجات النهضة والوحدة الإجتماعية, لكن علينا أن نحرص أن لا ينسحب هذا التناقض إلى مساحة باتت المواجهة فيها متوزعة بين قوى تدافع عن وجود وطن وإنسان وإنسانية مع قوى تدافع عن طبيعة نظام سياسي ودولة, وأخرى تقف بالضد للقضاء على كل ذلك مجتمعا.
وفي ساحة المواجهة مع داعش نحن بتنا جميعا في صف بينما داعش وكل من يتمترس معها, أفرادا وقوى ودول, وتحت أية ذريعة, هي تماما في الصف النقيض. اي رؤيا لا تستطيع التمييز بين شروط الساحتين وإحتياجاتهما هي رؤيا تصدر من عين عمياء او عقل اعمى أو من إرتباطات مشبوهة أو من خيال مريض.
إن القضية الأهم هي قضية تعريف ساحات وترتيبها من حيث المعنى والأهمية. في الساحة الأولى أنا أختلف مع العبادي وكل قوى الإسلام السياسي بكل شقوقه وتفرعاته, فهي ساحة يدور الصراع فيها حول طبيعة نظام وشكل دولة. لكن في الساحة الثانية أنا ألتقي معه لأن التناقض المركزي فيها هو ذلك الذي يتأسس على بقاء وطن.
صحيح أن الساحة الثانية لا تلغي الأولى, أي أن الدفاع عن وطن لا يلغي التناقض مع النظام والدولة, لكنه يوجب معرفة من يتقدم على من, وكيف تدار علاقة هذا بذاك, ولذلك لن يكون غريبا ان يجتمع الآن في خندق المواجهة ضد داعش من يتناقض مع شكل النظام السياسي مع من يناصره.
في الساحة الأولى إختلِفوا مع العبادي, فكرا ونظاما ودولة, لكن في الساحة الثانية: إنصروه .. لأنكم تنصرون وطنا.
إن الشبه بين المالكي وبين العبادي أن كلاهما يقودان عربة نظام إسلاموي طائفي محاصاصاتي لا يمكن لبنيته أن تبني دولة وطنية ناهضة أو عادلة, غير أن الفرق بينهما, وهو كبير في هذه المرحلة, ان الأول سار بهذه العربة في دروب وعرة وتعاريج مهلكة وأزقة ضيقة وحفر عميقة وكهوف مظلمة فزاد العربة عطلا والطرق خرابا والراكبين ضررا في حين أن الثاني يحاول ان يجعلها تسير في دروب أقل وعورة وأوسع أزقة وأخف مزالق.
وبينما يبقى التناقض بيننا وبين طبيعة الدولة وهوية النظام السياسي قائما فإن إجتماعنا على نصرة الوطن في هذه اللحظة يظل هو الأقوم.
وفي هذه المرحلة الحالكة: لا مانع من أن تلعن الظلام لكن على شرط أن تشعل شمعة
مقالات اخرى للكاتب