أقدمت حكومة أردوغان على ارتكاب أبشع وأخطر جريمة إبادة بحق الشعبين العراقي والسوري في تاريخ الشرق بقرارها الأخير قطع مياه الفرات نهائيا عن البلدين. فقد تحدثت تقارير صحفية (الأخبار البيروتية 2305 في 30 مايس أيار 2014) موثقة بالصور أن الحكومة التركية نفذت هذا القرار قبل أيام ما أدى إلى انخفاض هائل في مناسيب المياه في السدود التركية. وتقوم الحكومة السورية رغم ظروف الحرب الأهلية بالعديد من الأنشطة السياسية والإعلامية لفضح هذه الجريمة فيما تتفرج الحكومة العراقية بصمت وكأنها لا تعلم بما يحدث لبلادها وربما هي لا تعلم حقا وقد انشغلت أطرافها في الحكم والمعارضة في معركة شرسة واستكلاب شديد على المناصب والامتيازات في خضم تشكيل الحكومة الجديدة!
بمناسبة هذه الكارثة الجديدة ننشر سلسلة من مقالات حول الموضوع بهدف التعريف بهذا الخطر الجسيم المحدق ببلادنا وشعبنا والذي حذرنا منه مرارا وتكرارا خلال السنوات الماضية، عسى أن يصحو النائمون وينتبه الغافلون ويبدؤوا الدفاع عن أنفسهم وبلادهم التي ستتحول قريبا إلى صحراء جرداء بلا رافدين فإن لم يفعلوا فهم لا يستحقون الرافدين.
تعتبر الوثيقة الرسمية التي صدرت عن منظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة في يوم المياه العالمي، 22 آذار مارس 2011، والتي أكدت إمكانية زوال نهري دجلة والفرات بحلول عام 2040 بسبب السدود التركية وعوامل أخرى، تعتبر وبحق، نقطة فاصلة في تاريخ العراق القديم والحديث حتى ليمكن معها تقسيم تاريخ هذا البلد إلى "ما قبل" و"ما بعد" وثيقة اليونيسيف. سنتوقف مطولاً عند هذه الوثيقة الصادمة والخطيرة، الصادرة عن جهة دولية تعلن حيادها رسميا، في الفصل الأول ولكن لنتساءل قبل ذلك: هل نحن حقا إزاء قيامة عراقية؟ ألا يمكن للعراق البقاء كوطن تاريخي للعراقيين من دون وجود الرافدين؟
كلا، لا يمكن ذلك قطعا، فهي قيامة عراقية فعلا، وبعدها، بعد زوال الرافدين، لا بقاء للعراق، لبلاد السواد، بل لصحراء جرداء مترامية الأطراف قد تُلْحَق فيما بعد بالمحميات النفطية "الغربية" في الجزيرة العربية!
ولكنَّ هذه القيامة لم تبدأ مع وثيقة اليونيسيف بل انبثقت بواكيرها قبل أكثر من نصف قرن تقريبا. وهي قيامة عراقية بحتة، على الرغم من أنَّ دولة أخرى ستتأثر بها وهي سوريا، ولكن هذه الأخيرة يمكن أنْ تستمر كبلد حتى إذا خسرت حصتها من الفرات لأنها لا تعتمد على مياهه اعتماداً تاماً، ولأن وجودها الكياني "الجغراسياسي" لا يرتبط بوجود النهرين كما هي الحال مع العراق.
ثم إنها قيامة عراقية مائية، وبهذا فهي تفترق عن قيامة النار الفيثنامية التي خلدها فرانسيس فورد كوبولا بفيلمه "القيامة الآن". في فيثنام كانت القيامة بالنار الأميركية ولكنها انتهت بإحراق المعتدين بنارهم وانسحابهم مدحورين يجرجرون أذيال الخيبة من على سطح سفارتهم في مدينة هوشي منه "سايغون سابقا" بشكل مذلٍّ ومهين لهم ولحلفائهم من أعداء الحياة والمعنى، أما العراق، فستكون قيامته بالمياه التي حبستها تركيا في بحيرات اصطناعية هائلة خلف جبال من الإسمنت المسلح، شُيدت في منطقة ناشطة زلزاليا، وأيضاً بالمياه التي قطعت إيرانُ روافدَها عن نهري دجلة وشط العرب وفاقت الأربعين نهراً ورافدا.
أما لجهة الفاعل، فهو وإنْ كان دولة تركيا، العضو في الحلف الأطلسي، ولكن الولايات المتحدة الأميركية هي صاحبة هذه الفكرة الجهنمية لبناء سلسلة سدود وبحيرات اصطناعية ضخمة. لقد كشف عن ذلك الكاتب المتخصص في الشؤون التركية حسني محلي، في مداخلة تلفزيونية له قال فيها (ولدت الفكرة أساساً عام 1955 أو 1954، عندما طُرِحَ موضوع بناء السدود على الفرات ودجلة، آنذاك لم تكن هناك في المنطقة لا مشكلة مياه ولا أية مشكلة أخرى، المياه كانت بكثرة، فكلف شخص يدعى "رجائي كوتان" الذي أصبح وزيرا في حكومة نجم الدين أربكان فيما بعد وزيرا للطاقة، فكلف هذا الرجل الذي كان يعمل آنذاك في مؤسسة المياه الوطنية للقيام بدراسة حول هذه الأمور وذهب وهو يركب حمارا فحين ذاك لم يكن ممكنا الصعود بالسيارة إلى المنطقة الجبلية، وحين عاد، وأعدَّ تقريرا، قال إنه يقترح إقامة عدة سدود صغيرة على الفرات ودجلة، ولكنْ عندما جاء هذا التقرير إلى رئيس مؤسسة المياه الوطنية، وكان آنذاك سليمان ديميريل هو رئيس المؤسسة الوطنية، عندما تحدث – ديميريل الذي أصبح فيما بعد رئيسا لوزراء تركيا – عن هذا الموضوع مع الأميركان، قال له هؤلاء: لماذا هذا الغباء؟ هذا السلاح سلاح قوي يمكن أنْ تستغله ضدَّ سوريا والعراق، فالأميركيون اقترحوا عليه أنْ يبني سدودا كبيرة على الفرات ودجلة/ برنامج "تحت المجهر" على قناة الجزيرة حلقة بتاريخ 22/7/2010. مداخلة لحسني محلي وقد أوردناها بتصرف أسلوبي ولغوي جزئي وبسيط لأنها كانت شفهية ومرتجلة).
وبالمثل، لا يمكن غضُّ النظر عن تجاوزات الجارة المسلمة الثانية للعراق أي إيران، التي قطعت مياه أغلب الروافد عن نهري دجلة وشط العرب، ونحن نعتبر ما قامت وتقوم به هذه الدولة ضرباً من التجاوزات التي ترقى إلى مستوى العدوان الصريح، ولكنها بحساب كميات المياه المقطوعة تقل كثيرا عن حجم التجاوزات التركية حيث أن نسبة الوارد المائي القادم من إيران لحوض دجلة تبلغ 11.7% من ثروته المائية الواردة للعراق ككل.
إنَّ ما نقوله هنا ليس كلاما نظرياً أو بحثاً أكاديمياً متخصصاً في المياه وشؤون الهيدرولوجيا، كما أنه ليس كتاباً في التحريض السياسي والاجتماعي ذي النزعة الشوفينية المتطرفة، إذْ أنَّ من دوافعه الرئيسة الحفاظ على علاقات الجيرة والأخوة والتراث الحضاري العميق والمديد والمشترك بين شعب العراق بجميع مكوناته القومية وبين شركائه الأتراك والإيرانيين والأكراد والإذريين والأرمن في صنع حضارة وتاريخ المنطقة البالغ ذروته مع العصر العباسي الزاهر وعاصمته بغداد بما يضمن الخير لهذه الشعوب المتآخية وازدهارها. بل هو دراسة تطمح لأنْ يكون شهادة موثقة، تسجل خلفيات وتفاصيل الموضوع، وتحذر من الكارثة التي اعترفت جهات دولية بقرب حدوثها وبلوغها الذروة سنة 2040 مع اختفاء نهر دجلة تماماً، وتحول الفرات إلى ترعة بائسة ملوثة. كما حذرت دراسات رسمية لم يصدرها العراق المستهدَف، بل منظمات عالمية تابعة للأمم المتحدة كمنظمة اليونيسيف بمناسبة يوم المياه العالمي سنة 2011، ومعاهد دراسات أوروبية لم يُعرف عنها تعاطف مع العراق في الماضي كمعهد "الأبحاث الدولية". وسنتوقف بالعرض والتحليل عند أغلب هذه الوثائق والدراسات في الفصول القادمة. إنَّ الهدف من هذا الكتاب هو وضع وثيقة مفصلة بين أيدي أصحاب القضية الحقيقيين، أي الضحايا من العراقيين بالدرجة الأولى للتجاوزات العدوانية التركية والإيرانية ضد أنهار العراق واحتجاز مياهها خلف شبكة من السدود والبحيرات العملاقة في تركيا أو بقطع روافد دجلة وشط العرب من قبل إيران، وثيقة نطمح لأن تكون مكتوبة بتوثيق وموضوعية ولا نقول بحيادية فالحياد في قضايا الحياة والموت التي تخص شعوبنا كذبة كبرى. نريد لهذا الكتاب أنْ يكون مكتوباً بأسلوب سلس وواضح لا يجنح نحو التسطيح والاستسهال على حساب القيمة العلمية والعمق المنهجي ولا يعتمد الأسلوب الأكاديمي البحت والمعقد. كما نطمح أنْ يكون هذا الكتاب محتويا على أهم وأخطر ما يتعلق بملف الرافدين وحوضيهما الطبيعيين، وكيف ينظر إليهما القانون الدولي، وماذا عن إمكانية التحكيم الدولي وحيثيات وماضي العلاقات العراقية التركية بهذا الخصوص. لقد حاولنا أن يكون كتاباً جامعاً لا إفراط فيه أسلوبيا ومنهجياً، ولا تفريط في العمق والحيثيات والمشمولات كافة.
أسجل هنا، بأنني لم أكن يوماً متخصصاً في شؤون المياه والهايدرولوجيا، بل إنّ هذا الميدان من البحث والدراسات لم يستهوني يوما، ولكنني وجدت نفسي منخرطاً في المعمعة، وتحديداً من جانبها السياسي والمدني، حيث ساهمت كناشط مدني سلمي إلى جانب أصدقاء آخرين، في مقدمتهم رفيقي الراحل هادي العلوي، في تأسيس لجنة الدفاع عن الرافدين قبل سبعة عشر عاما، وكتبت بالاشتراك معه، ومنفرداً، خلال فترة نشاطنا سويةً ضمن جماعة مدنية هي "لجنة الدفاع عن الرافدين - 1995"، عدداً من المقالات والدراسات التعريفية والتحليلية باتجاه الدفاع عن الرافدين في بلاد الرافدين، حاولت فيها الاجتهاد والابتعاد عن التكرار والتبسيط والتعقيد للاقتراب بهذا الموضوع من مستوى إدراك وفهم الإنسان العراقي غير المتخصص، وليس لي أنْ أحكم على نوعية كتاباتي ومستواها في هذا الموضوع فهذا الأمر لا يعنيني ولا يهمني في قليل أو كثير.
نعم، لقد "حُبِسَتْ مياهٌ كثيرةٌ"، خلف السدود التركية العملاقة على دجلة والفرات والمشاريع الإيرانية على روافد دجلة مُذ أعلن المفكر العراقي الراحل هادي العلوي، في شهر كانون الأول ديسمبر سنة 1995، تشكيل "لجنة الدفاع عن الرافدين" وبدء نشاطاتها. وخلال السنوات السبعة عشرة، التي تلت تلك الواقعة، تقدم المشروع التركي الذي يستهدف النهرين أشواطا مديدة، وأصبح ما كان تجاوزات وممارسات مضرة، عدواناً صريحاً، لم يفعل خلالها أهل الشأن والمتضررون العراقيون، رسميون وشعبيون، ما يرقى إلى ربع مستوى رد الفعل البدائي المفترض، والشبيه بذلك الذي يبديه القط إذا هوجم! عوضاً عن رد الفعل المطلوب والمضارع لخطر الكارثة رأينا التبادل التجاري والاستثماري مع تركيا، وهو من جانب واحد، عنوانه استيراد كل شيء من تركيا، تصاعد ويقترب من عشرين مليار دولار متجها - كما يطمح أردوغان - إلى بلوغ سقف 70 مليارا. مثلما استمر ضخ النفط العراقي عبر أراضي تركيا مقابل أموال ضخمة تدفع كعمولة مرور إضافة إلى توفير نسبة معتبرة من حاجة تركيا للنفط والغاز، وكأن الحُكْم العراقي – سواء في العهد الدكتاتوري السابق أو خلفائه في حكم المحاصصة - يكافئ السلطات التركية على تنشيف وإلغاء وجود الرافدين بسخاء!
ولعل العلامة الإيجابية الوحيدة التي يمكن تسجيلها في هذا الصدد، رغم رمزيتها ومحدوديتها، تمثلت بقرار مجلس النواب العراقي الأسبق ربط الموافقة على أية اتفاقيات لتطوير التبادل التجاري والعلاقات الاقتصادية مع تركيا بموضوع النهرين وبموافقة تركيا على التوقيع على معاهدة رسمية منصفة لاقتسام مياههما، ولكن هذا القرار لم يؤثر عملياً في مستوى التعامل التجاري والاقتصادي القائم فعلاً حتى الآن.
الخلود للرافدين في بلاد الرافدين!
مقالات اخرى للكاتب