الدولة المدنية هي "تلفيقة أيديولوجية" صغيرة وفارغة المحتوى علميا، تعاون على اختراعها و نشرها فريقان من الساسة والكتاب: الفريق الأول، هم ساسة وكتاب إسلاميون لا يريدون أن يتهموا بأنهم يريدون إقامة دولة دينية في القرن الحادي والعشرين وبالتالي يتهمون من قبل أصدقائهم الغربيين "بالإرهاب الإسلامي" ولذلك قالوا نريد إقامة دولة مدنية ولكن ليس علمانية.
الفريق الثاني، هم ساسة وكتاب علمانيون قشريون لا يريدون أن يتهموا بأنهم ملحدون وكفار بموجب الأكذوبة التي اخترعها وبثها إعلام البترودولار "السعودي والمُتَسَعْدِن" في التسعينات من القرن الماضي وحتى الإيراني بعد قيام نظام حكم "ولاية الفقيه"، تلك الأكذوبة التي تقول إن العلمانية هي كفر وإلحاد وهم يعرفون حق المعرفة أنها ليست كذلك، فالإلحاد فلسفة والعلمانية مبادئ و قوانين لإدارة الدول تحترم الأديان وتحمي المؤمنين بها إلا في بعض النماذج المتطرفة.
الدولة المدنية كما قلنا أكذوبة وخرافة لا معنى لها، فهناك ضربان من الدول القائمة اليوم في عالمنا هما : الدولة الدينية ونماذجها الأشهر هي الدول السعودية والإيرانية والفاتيكان كما يمكن تصنيف الدولة الصهيونية كدولة دينية خصوصا بعد إلحاح قادتها على مطلب اعتبارها" دولة يهودية خاصة بالشعب اليهودي"، والبعض يضيف بريطانيا كدولة "دينية رمزيا" على اعتبار أن الملكة هي رئيسة الكنيسة فيها ولكن هذا الأمر يبقى رمزيا ولا يؤبه له. والنوع الثاني هو الدول العلمانية وهي أغلب دول العالم اليوم ( علما بأن الدول التي تصرح بعلمانيتها في الدستور قليلة ) وهي الدول التي تفصل بين الدولة ومؤسساتها وسلطاتها الثلاث وبين الدين كمؤسسات وشخصيات حية "رجال دين" ولكنها لا تفصل - كما يكذب أغلب الساسة الإسلاميين العرب – الدين عن المجتمع ولا تعادي الأديان.
وكان طه حسين قد تكلم في النصف الأول من القرن الماضي عن مبدأ سماه ( "الحيدة" بين العلم والدين) الذي يجب أن تأخذ به الدولة. وهذا معنى آخر من معاني الموضوع يتعلق بموقف الدولة الذي يجب أن يكون محايدا من وجهة نظر عميد الأدب العربي بين العلم والدين في قضايا الكون والحياة.
الدولة الدينية إذن مصطلح سياسي تلفيقي يراد به الجمع بين برامج وتوجهات الإسلام السياسي المعاصر بغض النظر عن طائفته ومذهبه وبين شيء من العلمانية القشرية، وهي – الدولة المدنية- تخدم أغراض الطرفين فالإسلاميون سيتحررون من الاتهام بموالاة العلمانية ومن اتهام بمحاولة بناء الدولة الدينية و "الإرهاب" أما العلمانيون القشريون فسيتحررون من الاتهام بالإلحاد برميهم العلمانية جانبا و تقاسم الميدان البرنامجي مع أصدقائهم الإسلاميين وفق قاسم مشترك هو "الدولة المدنية".
من حيث المبدأ لا ضرر من رفع شعار/ مصطلح الدولة المدنية في أوضاع خاصة ومحددة إذا ما تم ملء محتواه بمبادئ العلمانية وحقوق الإنسان والمساواة بين البشر فالفرق هنا سيكون فرقا في التسميات فقط بهدف إزالة الحرج، أما إذا تم ملء مضمون هذا التعبير ببعض القشور العلمانية مع مبادئ جوهرية من الدولة الدينية فسوف يبرز الخطر ويتحول رفع هذا الشعار/ المصطلح الى تضليل وخداع وتزوير لإرادة وأهداف للناس.
وفي سياق قريب مما نحن بصدد، نلاحظ أن هناك خلط ودسيسة في موضوع الموقف من الأحزاب السياسية والسلطة التشريعية المنتخبة، فالعراقيون والعراقيات المنتفضون في الهبة الشعبة الشعبية المتصاعدة كفروا بأحزاب المحاصصة الطائفية المتحالفة مع الاحتلال الأجنبي، وبالبرلمان الفاسد القائم اليوم، هذا صحيح تماما، ولكنهم لم يكفر بالأحزاب السياسية والسلطة التشريعية المنتخبة كدعامتين لا معنى ولا مضمون للديموقراطية بدونهما و لم يفضلوا عليهما دكتاتورية همجية من قبيل دكتاتورية صدام وأمثاله!
إن الأحزاب السياسية إنجاز حضاري حديث حل محل الشيع والفرق و غير ذلك مما هو موجود في تراثنا وتراث الشعوب الأخرى وهو مرتبط بالظروف التاريخية لأوروبا ما بعد الثورة الصناعية . وفي الدول الغربية في عصرنا كفَّت الأحزاب الكبرى خاصة عن أن تكون أدوات للتغيير وأصبحت أدوات لتبادل الحكم ببرامج متشابهة جدا حتى دخلت تلك الدول ما يسميه بعض الباحثين مرحلة " دكتاتورية الحزبين الكبيرين/ العمال والمحافظين في بريطانيا / الجمهوري والديموقراطي في الولايات المتحدة ، الاشتراكي والديغولي في فرنسا.. الخ .
أما في مجتمعاتنا فقد أخذت أغلب الأحزاب طبيعة الحواضن التي تنشأ فيها كما هي الحال في العراق فأغلب الأحزاب عائلية طائفية، وفي لبنان يمكن ان تأخذ الحزب الاشتراكي الدرزي وحزب الحريرى السني وحزب الله الشيعي كأمثلة ...الخ . و لا يمكن أن نعتبر الأحزاب السياسية معيقة لتطور والتغيير بإطلاق القول بل لا بد من قراءة برامج وأداء هذه الأحزاب قبل الحكم عليها أو لها.
لا ديموقراطية حقيقية ولا حقوق إنسان ولا حريات فردية وعامة بلا أحزاب سياسية و لا ديموقراطية سياسية فعلية من دون سلطة تشريعية منتخبة من قبل الشعب مباشرة. ولكن المطلوب والمبتغى هو أحزاب سياسية قائمة على أساس المواطنة أي الانتماء إلى الوطن وليس إلى الطائفة والعشيرة والعرقية" الإثنية" والمطلوب والمبتغى هو برلمان منتخب بشفافية ودون قوائم سرية وفي دوائر متعددة في دولة مستقلة قائمة على مبادئ المواطنة الحديثة والمساواة و ليس المطلوب والمبتغى برلمان كتل من اللصوص قائم على مبادئ وقواعد المحاصصة الطائفية والعرقية ودولة المكونات كما نظَّر لها ودَسْتَرَها نوح فيلدمان وبيتر غالبريث وأمثالهما وتشبث بها بالنواجذ والأظافر والأسنان طالباني والمالكي والنجيفي والبارزاني والحكيم والمشهداني ومن معهم!
نعم، للأحزاب السياسية "المواطنية" ..
نعم، للبرلمان المنتخب مباشرة من الشعب..
لا، وألف لا، لأحزاب الطوائف والعرقيات وبرلمان الكتل اللصوصية.
مقالات اخرى للكاتب