أخيراً التقيت به من بعد اثني عشر عاماً لم يصادف خلالها أحد منا الآخر.
كان آخر لقاء بيننا في غرفة بجريدة الجمهورية، كنت في مكتبي في القسم الثقافي (الطابق الرابع) حين اتصل بي تلفونيا وطلب حضوري عنده في مكتب ليس مكتبه (ولكن في الطابق الثاني نفسه)، وحين حضرت لم يستطع النظر في عينيَّ. اكتفى بالقول وهو مطرق رأسه مشيراً بيده إلى شابين غريبين كانا معه في الغرفة:
- استاذ عبدالزهرة، الأخوان من أحد الأجهزة الأمنية ويحتاجان لتمضي معهما بهدوء.
غادرت وكان ذلك آخر لقاء.
****
قبل أسابيع كنت في مجلس عزاء أقيم في أحد الجوامع، وبعد دقائق من وجودي فوجئت أنه يجلس على بعد أمتار مني، وتنبهت إلى أنه كان في وضع قلق، يسترق نظراً نحوي ثم يدير وجهه وينحني مطرقاً أو يتشاغل بحديث مع رجل كان بجواره.
سألت صديقي صاحب العزاء، وكان جالساً جنبي:
- هل تعرف (....)؟ هل هو قريبك؟
ابتسم وأجابني:
- نعم، ولم أقل لك من قبل إنه دائم الذكر لك، وأعرف ما بينكما!
- أرجوك، اذهب إليه واستفسر منه ما إذا كان يسمح لي بالانتقال جنبه لأسلم عليه!
حين تقدم الصديق نحوه كان هو قد نهض من مكانه قبل وصول الصديق إليه. وقبل أن يتكلم معه، سحب صديقي صاحب العزاء من يده، وجاءا إليَّ، وعانقني محيياً.
****
سأكون كاذباً إذا قلت إنه لم يشغل تفكيري كثيراً ولم أفكر به خلال هذه السنوات، أين صار؟ هل غادر البلد؟ هل كان طرفاً بأمر اعتقالي؟ هل كان ممكناً له أن يقوم بغير ما قام به؟ هل كان يمكنه مساعدتي؟
فكرت خلال السنوات باحتمالات كثيرة وقلبتها جميعها وانتهيت منها إلى أن الرجل ابتلي بموقف لا يتمنى أي شريف أن يبتلى به، إنه غير مسؤول وليس من الحكمة الآن أن أكلفه تصرفاً آخر غير ما قام به، وهو خجلان من خطأ لم يكن خطأه.
الدكتاتورية شوهت كل شيء، واربكت علاقات الناس مع بعضهم، وجعلت الجميع موضع ارتياب وشك الجميع. ولم يكن أمام الرجل ما يمكن أن يقوم به لصالحي.
فكرت ما ذا كنت سأتصرف حينها لو كان فعلاً قام بما لم يقم به، ماذا لو أنه سرّب لي معلومة ليتاح لي أن لا أجيء إلى الجريدة إذا ما كنت بعد خارجها أو الهرب من مبناها إن كنت فيها.
لا أعتقد أني كنت سأهرب أو اتخفى.. دائماً حرصت على أن لا يكون أحد سواي ضحية لي، فكيف بمصائر عائلتي وعوائل اخوتي التي ستهدد من أجل الضغط عليّ من خلالهم.
أنا لا استطيع مساعدة نفسي فكيف به هو الذي لم يكن يعرف حتماً ما إذا كنت بريئا أو مرتكبا لما يوجب القبض عليّ.
لا ينبغي تحميل الناس ما لا طاقة لهم عليه.
****
حين وصل إليّ في مكاني بمجلس العزاء، وقد نهضت لاستقباله، احتضنني وأراد أن يقول لي شيئاً، ربما كان يريد أن يعتذر، فاعترضته بصمت مكتفياً بإشارة من يدي.
لا داعي لأي كلام.. كل شيء بالنسبة لي تم قبره مع انتهاء الحادث وانتهاء النظام.
لابد من لحظة صفاء يكون النظر خلالها واضحاً.. والسلام، مع النفس ومع العالم، يبدأ دائماً من لحظة صفاء.
مقالات اخرى للكاتب