مع شهر محرم تستعاد طقوس عاشوراء ومعها تستعاد واقعة الطف. إنها مناسبة وطقوس شكّلت جانباً كبيراً من الوجدان العراقي ومن تقاليد الحياة العراقية.
ثقافة العراقيين، بمختلف أديانهم ومذاهبهم، بقيت دائماً تحمل ما تحمله من آثار يمكن ردها إلى ما يمكن أن تتركه الحياة وتقاليدها ومناسباتها من تأثير ليس على الفنون والآداب حصراً وإنما حتى على عادات الناس وأساليب تعاملهم وتفاعلهم.
وعلى مدار القرون والسنوات كان حضور واقعة الطف والشهادة في الحياة والثقافة العراقيتين يأخذ أشكالاً مختلفة ومتغيرة بتغير الظروف والحياة.
المرة الأولى التي كنت فيها في مجلس عزاء حسيني كانت في مطلع الستينيات، وكان الجانب الطقوسي في تلك السنوات هو الغالب، لكن في منتصف الستينيات بدأت اسمع وأنا طفل أن قارئاً من قراء المنبر، وكنا في البصرة حينها، هو هدف لمراقبة رجال (سرّيين)، والسري آنذاك هو تسمية لرجل أمن مكلف بالمراقبة. كان داعي المراقبة هو التحسب من رأي سياسي قد يقال على المنبر.
ولا أدري ما إذا كنت أنا الذي كبرت في السبعينيات وصرت أعرف الرأي السياسي أم أن تطورَ الموقف السياسي على المنبر هو الذي تضخم في تلك السنوات بحيث أن قارئاً حسينياً لا يجرؤ على التعبير عن موقف كان أكثر عرضةً من سواه لانفضاض الناس عن مجلسه، وكنت حينها في بغداد، في مدينة الثورة تحديداً.
ما زلت أذكر أن قريباً لنا، وهو الشيخ أحمد البهادلي، كان من أكبر القراء في المدينة، وبقي يحتفظ بجمهوره برغم تمسكه بالطابع الطقوسي البعيد عن الاستخدام السياسي.. كان الناس يعرفون أن هذا التمسك ليس نتاج تزلف أو تابعية للحكومة إنما هو تعبير عن عدم اهتمام الرجل بالسياسة وشؤونها وعن التزام بحدود المناسبة، وهي حدود يمكن لها أن تعبّر عن تثقيف بمبادئ البطولة وشرف الموقف وادانة الطغيان.
هذه الطبيعة لدى الشيخ هي ما أغرت السلطات حينها فاختارت مجلسه دون سواه من أجل احضار وفد سوري رفيع المستوى كان قد زار العراق وطلب حضور واحد من مجالس العزاء في بغداد.
وفعلاً تم إبلاغ الشيخ البهادلي بالوفد الذي سيحضر وبالسبب الذي جرى بموجبه اختيار مجلسه.
كان عدد الحضور عادةً يقرب من الألف شخص، وهو رقم كبير في تلك السنوات وهو كبير أيضاً لكثرة المجالس وتوزع الناس بينها، وكان بين هذا العدد الوفد السوري ومعه مرافقون حكوميون.
وحصلت المفاجأة التي لم يتوقعها أحد من هذا الشيخ الناحل والطاعن في السن والذي لم أعرف إلا قلة من مثله ممن يرتجلون فلا يخطئون في اللغة نحواً وصرفاً وتصويتاً.
لقد تراجع الجانب الطقوسي كثيراً في ما تحدث به وكرس معظم حديثه من أجل النقد السياسي وبأوضح ما يكون عليه النقد، ولم يبق أمام الناس وجلّهم يعرفون بالوفد الضيف وبأسباب اختيار الحكومة للشيخ سوى أن يلتفت الواحد منهم نحو الآخر وأيديهم على قلوبهم تحسباً للعواقب.
كانت السلطة وقتها أقل تورطاً بالدم، فاكتفت بأن انتظرت المناسبة لتنتهي وبعد العاشر من محرم اقتيد الشيخ للتوقيف والتحقيق قبل اطلاق سراحه.
كان المقربون من الشيخ يسألونه عما دفع به إلى هذا الموقف الغريب، فكان يقول: لم أتحدث بالسياسة من قبل لأنها قناعتي ولكن اليوم أُريد لي وطُلب مني أن لا أتحدث بالسياسة، وكان من العار أن أصمت وألبي المطلوب.
وكان هذا درساً من دروس عاشوراء التي ينبغي لها أن تتطور بما يتناسب وتغير الظروف مع الاحتفاظ بالجوهر الطقوسي الأصيل.
مقالات اخرى للكاتب