يبدو أن اتهامنا للحكومة العراقية بأنها "تتفرج" على جريمة أردوغان بقطع مياه الفرات لم يكن في محله، فقد تحدث عن الموضوع مسؤول حكومي عراقي وآخر برلماني وليتهما لم يتكلما! ليت المسؤولين العراقيين في الحكومة ومجلس النواب سكتوا وتفرجوا فقط على العدوان التركي الجديد، ليتهم لم يأتوا بأي رد فعل. فالسيد عادل المختار مستشار لجنة الزراعة والموارد المائية في هذا المجلس تطوع للدفاع عن أردوغان وحكومته فقال "لافُضَّ فوه" إنه (يستبعد قيام تركيا بقطع المياه) مع أن الصور التي نشرتها الصحافة تؤكد أن انخفاض مناسيب المياه في السدود السورية كان واضحاً وفدحا وبلغ ستة أمتار، أما مستشار وزير الموارد المائية فإنه يبرر بكل بلاهة وعدم شعور بالمسؤولية، يبرر العدوان التركي علينا بالقول (إن هذا الإجراء الذي اتخذته تركيا هو إجراء سنوي يعتمد على تقليل اطلاقات المياه بسبب عدم حاجتهم لتوليد الكهرباء لاعتدال الجو في هذا الوقت من السنة)! أية حماقة هذه؟ إن معنى كلام هذا المستشار الحكومي هو أن على العراقيين أن يكونوا شحاذي مياه ويعيشوا تحت رحمة السلطان الجديد أردوغان، فمتى احتاجت تركيا إلى توليد المزيد من الطاقة أطلق سلطانها مياها أكثر، وعندها نشرب نحن ونسقي زراعتنا وندير حياتنا منها، أما في الحالة العكس فيجب أن نموت من العطش قرابين للتقدم الذي يحرزه الجار المسلم الشمالي.
إن كلام هذا الشخص المستشار الذي لا أعرف حتى اسمه، والذي يتقاضى الملايين من أموال العراقيين بصفته مستشارا لوزير، وبغض النظر عن اسمه وانتمائه، دليل واضح على أن الأمور بلغت منتهى الانحطاط والتفسخ في ظلال حكم المحاصصة الطائفية، فهل أصيب هذا الشخص بعارض صحي عقلي أم أنه باع ضميره لحكومة أردوغان؟ في هذه الحال ينبغي على الوطنيين العراقيين أن يقاضوه بسرعة بتهمة الإضرار بمصالح وحياة الشعب العراقي، وتصريحه هذا أقوى دليل على صحة هذا الاتهام عسى أن يكون في ذلك عبرة له ولأمثاله من المفرطين بحقوق العراق وسيادته من أجل البقاء في كراسيهم، كراسي العار والشنار!
جرس إنذار خطير: بعد يوم واحد على بدء احتفالات المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة وأخرى غير تابعة لها بمناسبة اليوم العالمي للمياه، والذي وافق 22 آذار - مارس2011، نشرت عدة وسائل إعلامية عراقية وعالمية من إذاعات وصحف ومواقع تواصل اجتماعي الخبر الآتي، وسنورده بصيغته الأكثر انتشارا مع أنه ورد بصيغ أخرى لا تختلف كثيرا من حيث الجوهر عن هذه (كشف تقرير لإحدى وكالات الأمم المتحدة عشية اليوم العالي للمياه أنّ نصف كميات الماء في العراق تضيع هدراً، في حين لا يتمكن 6 ملايين نسمة من الحصول على مياه الشفة "الشُرْب". وأشار صندوق الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسيف" إلى تقرير دولي يثير احتمال جفاف نهري دجلة والفرات العام 2040 نظراً للتغييرات المناخية وانخفاض كميات المياه والاستخدام المكثف لأغراض الصناعة والاستهلاك المنزلي. وأضاف أنَّ العراق يواجه صعوبات في تحقيق هدفه للتوصل إلى تزويد 91% من المنازل بمياه الشرب بحلول العام 2015).
نلاحظ هنا، أنّ تقرير اليونيسيف لا يخلو من الغمز الذي يمكن اعتباره محاولة مغرضة وتضليلية لتحميل المسؤولية الكاملة، وإنْ بشكل غير مباشر، للعراق حين يقول بأنَّ (نصف كميات المياه في العراق تضيع هدرا). إنَّ هذا الزعم، ربما كان يصح حين كانت المياه تصل إلى العراق بكميات طبيعية وفيرة قبل أن تبني تركيا سدودها، فتتجه كميات كبيرة منها نحو الخليج، ولكنَّ مياه النهرين الآن لا يكاد يصل منها إلى ملتقاهما في "القرنة" إلا النزر اليسير بدليل أنّ مياه الخليج المالحة التي بات يطلق عليها المتخصصون "اللسان الملحي" هي التي أخذت بالصعود نحو الشمال في شط العرب فأهلكت المزارع وغابات النخيل على شبكة القنوات المتفرعة منه. أما مياه الشرب في البصرة فأصبح تأمينها صعبا ولجأت السلطات إلى مدِّ أنبوب مياه لها من قرية البدعة على نهر الغراف في محافظة ذي قار شمالا. ثانياً، إنّ أنهار العراق ليست استثناء عن سائر أنهار الكرة الأرضية، لأنها نادرة أو معدومة تلك الأنهار التي لا تصب في بحار أو محيطات، ولنا في النيل الذي يصب فرعاه، دمياط والرشيد، في البحر الأبيض المتوسط على مدار السنة مثال قريب، فلماذا يعتبر وصول مياه دجلة والفرات بعد تكوينهما لشط العرب في الخليج استثناء وجريمة، ويتم السكوت على الحالات الأخرى التي تشكل القاعدة لا الاستثناء؟
ثم أنَّ تخلف البنية التحتية الخاصة بموضوع المياه في العراق حقيقةٌ لا يمكن إنكارها، كما أنَّ إهمال الحكومات العراقية المتعاقبة لهذا الشأن، وعدم قيامها ببناء سدود ومشاريع مائية تناسب وضع العراق حقيقةٌ أخرى مؤكدة، ولكنَّ هذا الأمر يتعلق بالسيادة الوطنية، ويمكن، بل ينبغي للشعب العراقي وحده محاسبة حكوماته على هذا الإهمال والتخلف وحثها على الوصول إلى حلول جذرية لهذا الوضع السيئ دون أنْ يعني ذلك منح أي مسوغ قانوني لأية دولة للقيام بقطع النهرين بالسدود والبحيرات الاصطناعية عن البلد المصب أي العراق.
اليونيسيف تغيب السبب التركي: حين يعدد تقرير اليونيسيف أسباب احتمال جفاف النهرين سنة 2040، فهو يذكر التغييرات المناخية، والاستخدام المكثف لأغراض الصناعة والاستهلاك المنزلي، ولكنه لا يذكر العامل الأخطر والأكثر فعالية في ذلك ألا وهو بناء تركيا لشبكة ضخمة من عشرات السدود والبحيرات الاصطناعية، وقطع إيران لعدد كبير من روافد دجلة وشط العرب إلا تلميحا. فقد لمَّح التقرير إلى ذلك السبب تلميحا غير مباشر بعبارة "انخفاض كميات المياه" دون أنْ يجرؤ حتى على إضافة عبارة من قبيل "القادمة من دولتي المنابع تركيا وإيران"!
ورغم هذه الهنات والمساوئ، التي يمكن توقعها في تقارير المنظمات الدولية الغربية، الوالغة في عدم الإنصاف والكيل بمكيالين والتحيز لطرف ضد آخر، يبقى هذا التقرير وثيقة مهمة وخطيرة وصادمة تعلن رسميا بدء حلول الكارثة المحيقة بالكيان العراقي والشعب الذي يحيا فيه.
لقد جرى الخلط مرة، والفصل في أخرى، بين هذه الوثيقة وبين وثيقة أخرى انتهت إلى احتمال زوال النهرين، إذ يوجد تقرير آخر تحدثت عنه وزارة الموارد المائية العراقية ونسبته إلى "المنظمة الدولية للبحوث" فيما نسبته مصادر إعلامية إلى "المنظمة الأوروبية للمياه". وفي التفاصيل نعلم، أنّ مصدراً مسؤولاً في وزارة الموارد المائية أدلى بتصريح صحفي جاء فيه (أنَّ التقرير المعد من قبل "المنظمة الدولية للبحوث" تحدث عن "تناقص حاد" بالحصص المائية الواصلة ضمن حوض نهر الفرات التي ستصل إلى 32 ملياراً و140 مليون متر مكعب في الثانية بحلول عام 2040 مقابل احتياجات العراق التي ستبلغ حينها 23 مليار متر مكعب، أما حاجة كل من سوريا وتركيا فستصل إلى 30 مليار متر مكعب، منوهاً بأنَّ الواردات النهائية للنهر لن تكفي لتغطية الاحتياجات الكلية لها، الأمر الذي يؤدي إلى خسارة العراق موارد النهر بالكامل / صحيفة "الصباح" عدد 11/6/2009). وليس لعبارة "خسارة العراق لموارد النهر بالكامل" معنى آخر غير "زوال النهر بالكامل"!
في موضع آخر، ينوه المصدر بأنَّ منظمة أخرى تدعى "منظمة المياه الأوروبية" توقعت جفاف نهر دجلة بالكامل في ذات التاريخ، حيث يفقد النهر سنويا ما يعادل 33 مليار متر مكعب من مياهه، بسبب "السياسة المائية الحالية التي تتبعها تركيا"، بالتالي فانَّ العراق، وفي حال عدم تمكنه من إتمام اتفاقات دولية تضمن حصصه المائية بشكل كامل، مقبل على ما أسماه بـ"كارثة حقيقية" ستلحق بملايين الدونمات الزراعية في البلاد، وهو ما يعني تحول العراق لجزء من صحراء البادية الغربية خلال مدة لن تتجاوز الخمسة وثلاثين عاما المقبلة.
العراق سيخسر ثلث زراعته: ومن الجدير بالذكر أنَّ وزارة الموارد المائية العراقية كانت قد حذرت في نهاية سنة 2010، وعلى لسان أحد خبرائها في تصريح صحفي، من أنَّ سد "اليسو" التركي ضمن مشروع "الغاب" الهادف لتشييد 22 سداً بسعة خزن إجمالية تتجاوز 100 مليار متر مكعب، سيحرم العراق من ثلث مساحة أراضيه الصالحة للزراعة وبالتالي سيدفع بمئات الآلاف من الفلاحين إلى ترك مهنهم الزراعية والاتجاه إلى المدن في هجرة معاكسة، فضلا عن تسببه بنقص الحصص المائية التي تؤثر سلباً في مجالات مياه الشرب وتوليد الطاقة والصناعة وبدرجة كبيرة في إنعاش الأهوار والبيئة. ولكن يبدو أنَّ الوزارة العراقية وحكومتها كلها تنسى أو تتناسى تحذيراتها بمجرد انتهاء الدوام الرسمي فلا نعلم شيئاً عن أي إجراءات ترتبت على إطلاق تلك التحذيرات سوى أنَّ الحكومة قالت في بيان من سطرين إنها ستشكل مجلساً أعلى للمياه لحل هذه المشكلة! فماذا بخصوص هذا المجلس، وهل سيكون حلاً سحرياً يجنب العراق وشعبه القيامة الوشيكة؟
أعلن تشكيل هذا المجلس بعد ذيوع وانتشار خبر ومحتوى تقرير اليونيسيف وغيره من تقارير محذِّرة من زوال الرافدين من بلاد الرافدين. وقد أنيطت رئاسته برئيس الوزراء نوري المالكي، وعضوية عدد من الوزراء ورؤساء الهيئات الحكومية الأخرى وممثل عن إقليم كردستان. يأتي تأسيس هذا المجلس في وقت تفاقمت فيه مشكلة مياه نهري دجلة والفرات وأصبحت تهدد بالتحول إلى كارثة وطنية وبيئية بدأت تجلياتها بالظهور. منظمات دولية عدة حذرت من أنَّ العراق سيفقد نصف مياه أنهاره خلال السنوات الثلاث القادمة بسبب شبكة السدود التركية العملاقة على النهرين، وأيضاً، بسبب المشاريع الإيرانية لتحويل مياه عدد كبير من روافد نهري دجلة وشط العرب إلى الداخل الإيراني وقطعها عن العراق. سوريا من جهتها تنوي البدء بتنفيذ مشروع كبير، بتمويل كويتي، لسحب كميات كبيرة من مياه دجلة وتوجيهها إلى العمق السوري.
علاوي وبابان ورثاء الرافدين: إن إلقاء نظرة على الفقرة الآتية من تقرير رسمي آخر، منشور على موقع زعيم قائمة "العراقية"، إياد علاوي، على الانترنيت، يعطينا فكرة عن حجم التجاوز العدواني التركي ودوسه على حقوق العراق المائية وعلى تقاليد حسن الجوار بين البلدان الإسلامية (إنّ إيراد العراق من المياه لغاية العام 1990 وصل إلى قرابة 45 مليار متر مكعب لكلا النهرين، دجلة والفرات، وما أنْ استكملت تركيا بناء 6 سدود أكبرها سد أتاتورك وهي جزء من مشروع إحياء شرق الأناضول "الكاب" المؤلف من 21 سدّاً منها 17 سدّاً يقام على نهر الفرات و4 سدود على نهر دجلة، حتى انخفضت إيرادات النهرين إلى 28 مليار مكعب سنوياً. وفي عام 1998 كانت مساحة الأراضي الزراعية في العراق التي تصلها مياه السقي تبلغ 5.9 مليون دونم ولكنها انخفضت إلى 400 ألف دونم فقط في عام 2009 / الموقع الشخصي لإياد علاوي على الشبكة/ النت).
وقد تساءل مراقبون وصحفيون عن السبب الذي جعل علاوي يحجم عن التطرق علناً وبشكل رسمي لهذه الكارثة الموثقة بالأرقام وعن جعلها أحد القضايا المهمة في برنامج حركته السياسية أو كتلته النيابية ويكتفي بنشرها على موقعه على النت، فيما لا يكاد يمر يوم دون أن يدلي بتصريح يتعلق بأبسط الأمور كمنصب رئيس مجلس السياسات العليا وامتيازاته التي وعِدَ بها ذات يوم!
أما وزير التخطيط السابق، علي بابان، فقد نشر قبل مدة مقالاً متشائماً حول الموضوع قال فيه (عندما جئت أكتب مقالي هذا عن انحسار دجلة والفرات والنتائج الكارثية التي ستترتب على ذلك فكرت بعنوان: سيناريو يوم القيامة في العراق! ثم استبدلت العنوان بـ"العراق... الزلزال القادم" ولكني وجدته لا يقل تشاؤما عن سابقه، ثم وقع اختياري على "البكاء عند أنهار تحتضر"). هذه السطور ليست مرثية لدجلة والفرات ولكنها جرس إنذار للعراقيين جميعاً ليدركوا بشاعة السيناريو الذي نسير باتجاهه ونتائجه الخطيرة على جميع نواحي حياتنا. هذا السيناريو لم يعد بعيداً عنا بل بات قريبا، فما يفصلنا عن عام 2040 أو 2035 ليس سوى سنوات قصيرة، لا تعد شيئاً في عمر الأمم والشعوب".
من المعلومات المهمة التي يكررها الوزير السابق بابان واحدة تقول إنَّ سد "أليسو" التركي المقام على نهر دجلة سيحرم لوحده العراق من ثلث أراضيه الزراعية ولكنه يضيف لها قوله (وسيعجز الاقتصاد العراقي عن توفير لقمة الغذاء للـ35 مليون عراقي حتى لو وجَّه عائدات النفط كلها لإطعام مواطنيه).
ولكن كيف وصلنا إلى هذا الحد المأساوي، ومتى بالتحديد بدأت قصة الكارثة؟ خلاصة القول: إن وثيقة منظمة اليونيسيف التي حذرت من زوال الرافدين سنة 2040، هي جرس الإنذار الأخطر في تاريخ العراق. أما "منظمة المياه الأوروبية" فقد توقعت جفاف نهر دجلة بالكامل في ذات التاريخ، إذْ يفقد النهر سنويا ما يعادل 33 مليار متر مكعب من مياهه، بسبب "السياسة المائية الحالية التي تتبعها تركيا"، بالتالي فانَّ العراق، وفي حال عدم تمكنه من عقد اتفاقات دولية تضمن حصصه المائية بشكل كامل، مقبل على ما أسماه بـ "كارثة حقيقية" تحوله إلى جزء من صحراء البادية الغربية خلال مدة لن تتجاوز الخمسة وثلاثين عاما المقبلة.
وقد حذرت وزارة الموارد المائية العراقية في نهاية سنة 2010، من أنّ سد "اليسو" التركي لوحده، سيحرم العراق من ثلث مساحة أراضيه الصالحة للزراعة.
نطلب من زوارنا اظهار الاحترام, والتقيد بالأدب العام والحس السليم في كتابة التعليقات, بعيداً عن التشدد والطائفية, علماً ان تعليقات الزوار ستخضع للتدقيق قبل نشرها, كما نحيطكم علماً بأننا نمتلك كامل الصلاحية لحذف اي تعليق غير لائق.
اخبار العراق اليوم تصلكم بكل وضوح بواسطة العراق تايمز