في الإسبوع الماضي حمَّل الإيرانيون نوري المالكي, من خلال تصريح وكيل وزارة خارجيتهم, مسؤولية الفوضى التي يعيشها العراق وخاصة على صعيد العلاقة بين الشيعة والسنة والوضع الأمني المتدهور الذي تتقدمه حروب المناطق الغربية من العراق ووقوع نينوى في أسر قوات داعش.
بالنسبة لكثير من المحللين السياسيين فإن ذلك يتعارض مع الفهم التقليدي للدور الإيراني في العراق المنحاز للمالكي. وربما لم يقف الكثيرون أمام ذلك التصريح لأن صعوبة هضمه إشترطت بداية ً نسف الكثير من المعتقدات التي باتت تشكل البوابة الأساسية لفهم الموقف الإيراني من قضايا الساحة العراقية.
في محاولته حسم موقف رجل التوازنات الإقليمية والدولية في العراق كان المالكي قد زج العراق في ساحة مقامرة خطيرة. وما كان مقدرا لتلك اللعبة ان تتم بدون ان تترك آثارا خطيرة على البلد أولا وعلى المالكي شخصيا لأنه بدأ يرقص مع الأفاعي ويتسابق مع الذئاب في ساحة غير مسموح لأحد أن يدخلها ما لم تكن له قدرة عالية في ساحة الركض وبراعة كافية في ميدان الرقص. وبينما بدأ البعض يعتقد أن المالكي قد تمكن من الإمساك بعصي المصالح الأمريكية والإيرانية من وسطها فإن آخرين كتبوا إستحالة ان يأتي الأمر بنتيجة, فالأمربدى وكأنه محاولة لعقد قران أسد على نسر والمراهنة على أن بإمكانهما أن يعيشا في تبات ونبات وينجبوا الصبيان والبنات .
لكن المالكي الذي ظن ان بإمكانه أن يكون عراب ذلك الزواج كان واهما تماما. ولأنه كان يخوض معركة ذاتية بحتة لم يكن غريبا أن تتقدم مصلحته على مصلحة بلده. بل كان من المستحيل رؤية الثانية وهي تتقدم على الأولى. وفي الحقيقة فإن ذلك لم يكن غريبا على فقه حزب الدعوة نفسه الذي كان تأسس كنقيض لحالة الدولة الوطنية وكان ما يفرقه عنها اكثر مما يجمعه بها حتى إذا ما جعلته الأقدار على رأس قيادتها فقد صارخصما للحالة وقائدا لها في نفس اللحظة.
في مساحة الدمج ما بين الخصومة والحكومة التي حاول حزب الدعوة أن يجمعهما بيده كان مزاد البيع والشراء مفتوحا طيلة ساعات اليوم وطيلة أيام السنة بحيث بدى التخريب وكأنه عملية مقصودة. فإذا ما وقفنا أمام معطيات الثماني سنوات التي حكم فيها المالكي فسوف لن نعثر على منجز سياسي واحد يؤكد على وجود أسبقية لحالة الدولة على حالة الذات. على العكس من ذلك رأينا العراق وهو ينحدر مع خصمه الحاكم إلى عمق مستنقع كان المالكي يفتش في قعره عن زعامة لم يكن مقدرا له ان يجدها على أرض مستوية. أما المالكي فقد صدق برواية عباس بن فرناس وحاول أن يطير مثله باجنحة شمعية, وكان خطؤه أن فكرةالرواية كانت بهرته بشدة فلم يقرأها حتى النهاية لكي يكتشف إن بن فرناس كان قد سقط في البحر ضحية لأول خيط شمس.
في عام 2010 ظن المالكي أنه إستوى تماما على العرش حينما تهيأ له أن الإتفاق الأمريكي الإيراني على تنصيبه رئيسا للوزراء بديلا لعلاوي هو تأكيد على أن سياسة مسك العصا من الوسط قد نجحت بإمتياز, ثم أوهم نفسه أيضا بأن ذلك يعطيه فرصة ثمينة لكي (يخبط الساحة ويشرب صافيها) فدخل في لعبة قصقصة الأجنحة مع خصومه وحلفائه على السواء وبدأ عملية الإستيلاء على المؤسسات المستقلة ومن ضمنها القضاء والبنك المركزي وعملية شراء النفوس والضمائر وتفعيل اللعبة الطائفية.
ولقد أولى إهتماما أكيدا كبيرا بالأخيرة لإيمانه بأن ذلك سيعطيه قدرة حسم معركة الزعامة على الساحة الشيعية ويؤهله تلقائيا لحسم الزعامة على الساحة العراقية إضافة إلى ان ذلك قد جاء إستجابة لبنى فقهية وفكرية تشكل اساسيات الحركات الإسلاموية الطائفية. وهكذا دخل العراق في مرحلة شيطانية بدأت تأكل ما تبقى من قواه. لقد أراد المالكي أن يخيف الشيعة بالسنة لكي يتصدر زعامة الشيعة ويخيف العرب بالأكراد لكي يتصدر زعامة العراق فإذا بالبلد وقد دخل في مرحلة قدر لها أن لا تنتهي إلا بإنتهاء أحدهما, البلد أو المالكي. ومع سرعة تصاعد المعطيات الإقليمية وبخاصة على الساحة السورية بدأ يتضح أن حسابات حقل المالكي لا تتطابق مع حسابات بيدره وإن قدرته على تطويع المعادلات الإقليمية لصالحه صارت محدودة جدا, ولعلها كانت معدومة بالأصل.
أما إيران فقد أدركت من جانبها ان المالكي سار أسرع مما يجب وصار شره اكثر من خيره وكان عليها أن تراقب حالة الساحة الشيعية التي بدأت إجتهادات قواها المختلفة مع المالكي تتفارق مع سياستها الداعمة له بينما أكدت الإنفجارات على صعيد المناطق الغربية من العراق على أن البلد سائر إلى الهاوية لا محالة في حين أنها على الساحة السورية كانت أكدت على صعوبة السيطرة على وحش داعش, وبدى الأمر خاصة بعد إحتلال الموصل وكأن جرثومة قد أفلتت من مختبرات التصنيع. ولم يكن غريبا ان تلتقي الأطراف المتصارعة على ضرورة محاصرة تلك الجرثومة وإعادتها إلى حجم لا يهدد بإنتشار الوباء.
السياسة نجاسة, هذا ما يراه البعض, بينما يرى البعض الآخر انها كياسة وفراسة, ولهذا إختلفت تفسيرات الموقف الإيراني الأخير. من يرى السياسة نجاسة يعتقد ان إيران لم تأتي بشيء جديد على صعيد الإستعداد للتخلي عن الحلفاء لحظة الإختيار, فالمالكي الذي اشعل لها العشرة شمعا لم يلقى لديها الإستعداد لنصرته ساعة الشدة, بل رآها تذهب إلى إدانته بالعلن. بينما يؤكد أصحاب الرأي الآخر ان إيران لم تأتي بشيء جديد فما اعلنته على لسان وكيل وزير خارجيتها هو الذي حاولت أن تقنع به المالكي طيلة الفترة السابقة, فهي وامريكا عدوتان في ساحة حرب باردة, ومن شروط تلك الحرب الباردة أن تدخلها بكرات من الثلج لا بكرات من النار.
ومشكلة المالكي أنه لم يكن يمتلك حاسة التمييز بين الحار والبارد
مقالات اخرى للكاتب