في البدء، اعتذر عن العنوان. عنوان مُستفز قد يكفي احياناً لايقاظ انا مُتضخّمة تعيش على ادب الشتائم. والحقيقة انا لا اصفهم بهذا، بل استعير ما يقولوه على آخرين، شعراء مثلهم.
فهذا احدهم يقول انا لا اشتري الجواهري "بقندرة" لانه صافح جميع الطغاة، وآخر يُجهز على شعرية عبدالوهاب البياتي ولايعترف به شاعراً.
لماذا ياترى يتضخّم الشاعر للحد الذي يتلذذ فيه بشتم شاعر سبقه او عاصره؟
قد يحصل هذا في اي ميدان معرفي، لكنه الاكثر وضوحاً في ميدان الشعر، حيث حروب الشعراء فيما بينهم لا تنتهي.
يبدو انها عادة ورثناها من اجدادنا الشعراء. ورثنا حروب الشعر بين جرير والفرزدق. ورثنا الجدل بين شعراء عكاظ كقيمة من قيم الادب لايمكن التخلّي عنها. ربما هذا تفسير تاريخي للظاهرة.
لا يمكن التعرّض لهذه الظاهرة بمعزل عن التعرّض لنفسية العراقي، فشاعرنا هو ابن ذلك المجتمع الذي يحب التغني بالانا، يحب دائما ان يقول انا فعلت هذا، ونجحت في ذلك، على ان يقول مرة واحدة فقط انه فشل في امرٍ ما.
تخيّلوا لو ان سياسياً معيناً قال علناً انا لا اشتري فلان السياسي "بقندرة"، ماذا سيكون موقف المثقف حينها او الشاعر بصورة اخص؟ اعتقد ان حرباً بمستوى حروب الردّة ستشنّها اقلام الشعراء عليه، وسيتحوّل كلٌ منهم الى قديس يحمي هيكل العفة من سياسي حلّت عليه لعائن الرب. فما بال شعراؤنا اليوم تتسلل اليهم لغة "القنادر" بدلاً من لغة الشعر الجميل.
علاقة الثقافي بالسياسي علاقة متوترة على طول التأريخ، لا ينام احدهم الاّ ونصف عينه مفتوحة على اخطاء الآخر، والذي لا افهمه كيف ان الثقافي يستنسخ ما يُعيبه هو على السياسي. السياسي الذي تعوّد الخشونة في خطابه، كمقتضى من مقتضيات عمله ربما، هل سيبقى صامتاً تجاه "انحراف" المثقف، ام سيعمد لنفس ادوات "الردع الفكري" التي يستخدمها ذلك المثقف حيال السياسي اذا اخطأ؟
يبدو ان الصراع النفسي الكبير الذي يعيشه الشاعر مع نفسه لا يتوقف عن حد الشتم فقط، بل يُحاكي مجتمع القردة في حركات وصيحات يُصفق لها مجاملةً اصدقاء وهميون على مسرح عوالم الافتراض، وغالباً ما تدفع تلك الحماسة المجنونة للمزيد من هذه الحماقات. تمرين ممل لزعامة فارغة يجيدها القردة كلما حان وقت اختيار الزعيم.
فالناشنال جيوكرافيك تخبرنا بان مجتمع القردة، وتحديداً احدى فصائلها، تتقن طقوساً غريبة في اختيار الزعامات، حيث تجتمع الفصيلة برمّتها في موعد محدد من كل عام لاختيار "شيخ" القردة، وتبقى الساحة فارغة لمَن يتصدى وسط المجموع برغبته. يخرج احدها ضارباً بكلتا يديه على صدره، يُهرّج ويصيح باصوات عالية، وحدها القرود تفهمها. ينتظر الجميع بهدوء عسى ان يخرج احمقٌ آخر امامه. لا يخرج احدٌ، فيصفق الجميع "لشيخهم" الجديد.
هكذا يتم تنصيب زعيم القرود. العملية لا تحتاج سوى الى صيحات هستيرية مع حركات استعراضية وضرب على الصدور لجلب انتباه ابناء الفصيلة. مشهد سوريالي يحاول شعراء "القنادر" استعارته بالنص.
فمثلما يعشق السياسي تصفيق الجمهور، يعشق المثقف والشاعر تصفيقهم ايضاً.
كلٌ يُمارس زعامة شكلية مُستوحاة من نوستالوجيا "اجدادنا" القردة على حساب ادبه وفنه وجمهوره.
نخبة بذوات مُتضخّمة تعيش حالة هلع فكري من كل قرين ينازعها سلطاناً وهمياً، حتى اصدقائهم اهداف للشتيمة عندهم اذا اقتضت الضرورة الشعرية، يالها من انا!