لقد وضع لنا رائد الدراسات الثقافية في بريطانيا ستورات هول نظرية في غاية الأهمية حول تحليل الخطاب الإعلامي. لا يعتقد هول ببراءة الإعلام أبداً. فهو يرى وسائل الإعلام مجرد مصانع تعيد إنتاج لغة النخب المهيمنة في قوالب خطابية مشفرة.
كل ما تفعله الوسيلة الإعلامية هو تشفير موادها الإخبارية برموز معينة لإرسال رسائل مخفية تعيد فيها إنتاج التعاريف السائدة على أنها حقائق غير قابلة للتشكيك. عملية فك شفرة الأخبار ومضامينها من قبل الجمهور هي الأخرى عملية غير بريئة. يقرأ الجمهور رسائل الإعلام المخفية من ثلاثة مواقع لا رابع لها. هناك مَن يستريح مع التعاريف السائدة ويستقبل تلك الرسائل بأريحية تامة لأعتقاده بصحتها.
هو كسول لا يرهق عقله بالتفكير والتحليل بل يعتاش على الجاهز من الأخبار كأي دلو فارغ مستعد لتقبل كل أنواع الماءات دون تصفيتها أو ترشيحها. فمثلاً ، خبر يظهر عملاً إرهابياً أو لا إنسانياً مع صورة أو رمز معين يشير لطائفة من طوائف العراق ، سيفهم فوراً تلك الرسالة إبن هذه الثقافة ويعيد نشرها والتبليغ لها بقوة. ها هو ذا يكتشف ذاته في هكذا رسائل.
الثاني هو مَن يفهم رسائل الإعلام جيداً لكنه يسعى الى تسوية معينة لخلق حالة من التوافق بين هذه الرسائل وبين موقعه منها. يفهم أن الخبر المفترض أعلاه يخفي وراءه رسالة معينة تفهمها مجموعة معينة من الناس كحقيقة مطلقة لكنه يعيد صياغة هذه الرسالة ليجعلها في إطار أكثر قبولاً عند عموم الناس. قد يقرأ هذا النوع من الناس تلك الرسالة على أنها مسألة طبيعية لا تعميم فيها.
أنما هي مجرد قراءة من زاوية واحدة تخص نسبة محددة من أبناء تلك الطائفة ولا تشمل جميعهم بالتأكيد. هذا النوع يكتشف جزءاً من ذاته في مثل هذه الأخبار. أما النوع الثالث من الجمهور، فهو جمهور مقاوم يفهم جيداً لعبة الإعلام ورسائله الخفية. يفكر في كل خبر وصورة وموضوع تنشره وسائل الإعلام ولن يقبل بالقراءات السائدة بل يحاول فك شفرة الخطابات الإعلامية وفق ثقافته التي إكتسبها من إطلاعه وسعة معلوماته.
هذا النوع هو أصعب أنواع الجماهير. هو ناقد مزعج يتربص صغائر الإعلام وكبائره ويفكك كل مقولات الميديا الجاهزة. ففي الخبر المفترض أعلاه ، سرعان ما يعرف الجمهور المقاوم أنها محاولة غير بريئة لربط طائفة ما بالأعمال الإرهابية.
رسالة مخفية تنتجها غرف الإعلام المظلمة لتسويق ثقافة جماعة على أخرى. هو لا يرى ذاته في مثل هذه الأخبار أبداً. إن كان ثمّة إعلام مستقل فالشخص الذي يقف وراءه ليس مستقلاً أبداً. لديه عقيدته ومنطقه وإيديولوجيته التي لن يستطيع حجب ظلالها وتأثيراتها في متون الأخبار وهوامشها. تلك حالة تخص واقع الإعلام في كل بقاع العالم الحقيقة التي يجب الإعتراف بها هو أن تجربة الثلاثة عشر عاماً للإعلام العراقي بعد سقوط البعث تجربة فريدة نوعاً ما.
فريدة لأنه لا توجد رسائل مخفية تعيد إنتاجها مؤسسات الإعلام العراقية بشفرات خطابية. إنما هناك مباشرية فضّة تتكفل بها وسائل الإعلام نيابة عن مكونات وطوائف العراق. فعشرة ثواني أمام أي وسيلة إعلامية عراقية كفيلة بمعرفة شيعيتها أو سنيّتها أو كرديتها ، ناهيك عن الأقليات الأخرى.
مؤسسات الإعلام العراقي نتاج البنية المجتمعية العراقية المفككة ، لا يحتاج المرء قراءة هول لمعرفة خلفياتها الإيديولوجية. فهي واضحة وصريحة ، لا تشفّر خطاباتها بل تتحدث بكل جرأة ووضوح عن رؤى مالكيها ومنتجيها. لا تشفير ولا رسائل مخفية. كل شيء صريح للغاية في مؤسساتنا الإعلامية. فإحتلال بعض البلدان لأراضي العراق يصبح هينّاً ومبرّراً بينما تبقى إحتلالات أخرى مدانة ومرفوضة. المهم بالنسبة لتلك المؤسسات هو الحفاظ على عقد الشراكة بينها وبين جمهورها المفضّل. فالإخلال بعقد الشراكة هذا إخلال "بمصداقية" المؤسسة وخطابها التحريضي بالنسبة لجمهورها.
هذا الخطاب التحريضي الذي يعيد تصنيف الضحايا وفق مذاهبهم وطوائفهم وقومياتهم وليس وفق مقاسات الوطنية. أنني لا أنفي وجود مؤسسات إعلامية مهمة ورصينة وحيادية في العراق لكني أزعم أن وجود هذه المؤسسات صار لا يلقى ود وتشجيع المتابع العراقي أو بالأحرى أغلبية المتابعين العراقيين.
ربما يكون تعميماً ظالماً لكن ثلاثة عشر عاماً من التضليل والتحريض كفيلة بسحق الإعتدال كله. نحن ضحايا الإعلام ، نفكّر ضمن منظومته. نشجب ونرحّب ما تشجبه وترحّب به وسيلتنا الإعلامية المفضلة. لا نريد فسخ شراكتنا مع وسائل إعلامنا المفضلة ، ليس لأنه لا يوجد بديل عنها بل لأننا كسالى ، لا نرهق أنفسنا بالتفكير في قضايا "يسلقها" لنا الإعلام بوضوح. لِمَ نرهق أنفسنا في مهمة يفعلها آخرون من أجلنا مجاناً!
مقالات اخرى للكاتب