الشعائر الحسينية "حقيقة" إجتماعية ، والمقصود بالحقيقة الإجتماعية أنها كل فكرة يتفق عليها المجتمع بغض النظر عن صدقيتها فتتحول الى ما يشبه الجين الوراثي تحمله وتتناقله الاجيال لا شعورياً. الحقيقة الاجتماعية لا علاقة لها "بالذات" بل "بالآخر" دائماً ، "الآخر" الذي يرى ويشاهد ويحكم.
هذه الحقيقة الاجتماعية (فكرة الشعائر مثلاً) لابد لها من صورة تظهر في ممارساتنا المادية لها ، وهي صورتنا أمام "الآخر" وليس أمام أنفسنا.
الأهم ، كيف يرانا "الآخر" حين نؤديها ، لأنها بالنهاية ليست لنا بل للآخر (المجتمع). وهو ما يفسر الاستقتال الرهيب على نشر الصور وتوثيق لحظات تلك الشعائر بطريقة مبالغ فيها في مواقع التواصل الإجتماعي وغيرها.
أعرف أشخاصاً ليسوا متدينين ولا مؤمنين بمسلمات دينية أهم ، لكنهم مهووسون بنشر صور مشاركاتهم في الشعائر الحسينية. هم بهذا يتواصلون مع ما يريده مجتمعهم منهم ويقولون له ها نحن ذا نمارس تلك الشعائر. هذه هي صورتنا الفعلية ، هذه هويتنا الحقيقية ، صدقونا.
قد تظهر هذه الشعائر بشكل لطمية أو بكاء أو أغنية أو موشح أو تطبير على الرأس أو صورة بخرقة سوداء على الرأس أو ربما حتى رقصة هيستيرية على أنغام موسيقى حداثوية ، وبهذا يدخل الممارس في ما يسمّيه الأنثروبولوجيون في لحظة الإنعكاس The Moment of Reflexivity (ترجمة لا تعطي المعنى الأنثروبولوجي الدقيق للمصطلح بصراحة).
في هذه اللحظة ، تذوب الذات في المجتمع تماماً وتعكس ما يريد رؤيته "الآخر" منها وليس ما تريده الذات نفسها. وهي بهذا ، مثل أي عدسة عاكسة تعكس بؤرتها أشعة الشمس وتسقطه على الأجسام الأخرى فتتحكم بكمية الضوء عوامل كثيرة أهمها تلك الأجسام نفسها ، لونها ، خصائصها ، طبيعتها لإستقبال تلك الأشعة أو رفضها.
فإن كان الممارس في مجتمع غربي مثلاً ، تتحول الشعيرة الى راب ربما ، مثل "الراب الحسيني" الذي أدّاه المطرب الامريكي المسلم جَي دين وإنتشر في مواقع التواصل الإجتماعي مؤخراً.
ليس بالضرورة أن تكون لطميةً على الصدر او تطبيراً على الرأس في هذه المجتمعات ، وأنما صورة مختلفة تعكس الحقيقة الإجتماعية لهذه المجتمعات نفسها.
كثر الحديث عن ترشيد الشعائر وزادت الانتقادات لها ، في حين يزداد الممارس لها غلوّاً فيها في عملية عناد أزلية لا تنتهي أبداً.
بصراحة ، ان هذه الشعائر هي حقيقة إجتماعية ليس من الحكمة مواجهتها أو إنتقادها بحقيقة إجتماعية أخرى قادمة من محيط إجتماعي آخر وإلّا ستكون ممارسة إستشراقية هدفها تقييم سلوكيات مجتمعٍ ما بمقاييس مجتمعٍ آخر ، وهو ما يقع فيه الكثير من النقاد والمثقفين كلما حضر شهر محرّم.
الحقيقة الأنثروبولوجية للشعائر الحسينية هي أنها إبنة تاريخها وثقافتها ومجتمعها ولا علاقة لها بالتحضّر والتخلّف أبداً ، فالتعريف الكلاسيكي للثقافة والذي بموجبه يتحدّد التحضّر والتخلّف تعريف ناقص ، صار غير مناسب لإحتواء معاني الأشياء في مجتمعات مختلفة وأزمان متعددة. في حين ظلت المقاربات الأنثروبولوجية أكثر دقة في وصف السلوكيات الإجتماعية لأنها بلا ضوابط ولا مفاهيم مسبقة بقدر ما هي رصد مستمر ومحايد Observation لظواهر إجتماعية بعيداً عن أحكام الباحث المسبقة وقناعاته الشخصية.
هذه ليست دعوة للتشجيع على تلك الممارسات الشعائرية ولا طلباً للكف عن إنتقادها بقدر ما هي محاولة لفهم كيف أن هذه الطقوس خاضعة لأمزجة المجتمعات نفسها ، تتغيّر بتغيّر الديناميكيات المادّية لتلك المجتمعات وليس بإعادة توصيف التعاريف الإستشراقية السائدة بحقها. تغيّر الديناميكيات أمر قد يستغرق وقتاً طويلاً جداً.
فبالنسبة للفرد مثلاً ، الإنتقال للعيش من مجتمعٍ ما الى مجتمعٍ آخر إحدى تلك المقدّمات المادية لأي تغيير ذهني يسمح له بإستقبال أفكار جديدة مخالفة أحياناً لأفكاره السابقة ، وحينها لن يكون التعريف الكلاسيكي للثقافة موفّقاً للفصل بين ما هو متحضّر ومتخلّف في مثل هكذا مثال ، بل يجب أن يُفسَّر ذلك التغيير في إطاره الأنثروبولوجي الطبيعي.
مقالات اخرى للكاتب