الدين والثورة ومستقبل المجتمع. ح1
من المؤكد في التجربة البشرية العامة وفي شقها السياسي خاصة أن الدين عندما يكون هو لب النظام الأجتماعي المهيمن والقائد في زمن ما، ينجح سريعا في تأليف العقل الجمعي مع نظريته خاصة في الفترة الأنتقالية بين زمنين وحالين ووضعين مختلفين، ولكن أيضا سينجح أيضا في كسر هذه القاعدة أي قاعدة التأليف سريعا بمجرد أن يبدأ المجتمع الديني الذي تحول سريعا بإدراك الحقيقة الدينية، المتمثلة بعدم صلاحية الدين لأن يكون دستورا أجتمعيا وسياسيا له، لكنه يقر له بأحقية أخرى في أن يبقى وجه ثقافي وفكري للمجتمع بشرط أن يتخلى عن قوته المادية ويعزز جانب الروح والمثالية فيه.
الدين عندما يتبلور كحاجة أساسية في صيرورة التحولات ويتملك الواقع كخيار ضروري لا بد منه، إنما يملكها بقوة العامل الروحي الذي يحرك المد الثوري الأجتماعي عند النخبة صاحبة قرار التغيير، هذه الروحية التي تلتقط كل الإشارات المثالية الإيجابية وتتقيد فيها ستمنح العقل الثائر زخما من نوازع الفضيلة وأشتراطات العمل الخيري الذي يقدم نموذجا أصيلا ومحببا للناس، هذا النموذج وبمثاليته الواضحة جدا إنما يمنح الناس أمل وقدوة مهيأ أن تطاع ومهيأ أن تسمع وتتابع، لأنها القاعدة صاحبة المصلحة في التغيير تبحث عما هو مفتقد أجتماعيا وسياسيا وفكريا، هنا نشهد نواة العمل السياسي والفكري الذي ينتشر كظاهرة في كل مراحل نشوء الديانات، عندما يكون القائد الديني هو المثال المطلق والرومانسي للشعوب المغلوبة والمقهورة، وعندها تتحول كلماته وتصرفاته السلوكية إلى إلهام شعبي يعزز مبدا الثورة والتغيير.
لم أجد أن المجتمعات التي أسسها الدين في التجربة التاريخية الإنسانية أنها تسلحت في التغيير بغير شرطين أساسيين وهما:
• مثالية الأفكار وتعاليها عن الحس المادي وتجاوزها لحالات الأخفاق والأنحدار التي كان يعاني منها المجتمع تحت ظل ثقافة وفكر وممارسة عاجزة عن طرح بديل أخر.
• شخصية القائد المثالي والنخبة المؤسسة القادرة على أستجلاب التعاطف الإنساني أولا وتحويل مبدأ الإعجاب بالمنقذ إلى طاعة وأتباع شبيه بالعبودية المشخصنة.
في كلا الشرطين يلعب العقل الجمعي دورا مهما في إعادة صياغة الوعي الأجتماعي، ويهيئ لمبدأ وأليات وفلسفة التغيير سواء أكانت مبادئ الدين الجديد في مجموعها تشكل نقلة نوعية في الحياة بما فيها ضمان نجاح التجربة في أحداث شرط التطور والسعادة أم لا، هذا يعني أن العوامل الذاتية التي تتناغم مع رغبة العقل الجمعي الدفينة والتي كانت تعاني من تسلط وظلم الواقع السابق هي التي تتحكم في الثورة وأسبابها، وليس حقيقة ما في الدين لوحدها كمشروع غير مجسد على الواقع بأعتباره أملا قابلا للتطبيق، هذه الفكرة التي ستتعرى لاحقا عندما يأت الأستحقاق العملي وتشترط التجربة أن تكون هناك ترجمة لواقعها على الأرض، سوف يكتشف المجتمع أن الكثير من المثاليات التي كان يحلم بها أو التي حفزته للطاعة والمتابعة صعبة على التطبيق، أو غير قادرة على التجسيد واقعا.
لكن هذه الخيبة التي ستكبر كلما بدأ الدين يتغلغل في الواقع ويفرض نفسه من خلال الرغبة في طرح البديل المثالي تبقى حبيسة الإحساس المتشكك بمصداقية وعيه الذاتي، التعلق سيكون للبديل المناقض الذي حلم به الناس وسعوا بكل قوة لتجسيده بقوة السلطة الجديدة مع قلة الخيارات المطروحة نتيجة حداثة التجربة ذاتها وعدم نضجها في الفق الأجتماعي، لكن من جهة أخرى يبقى العزم العام ومن خلال شخصية القائد النخبوي التي تلهم الجماهير هي المدد اللازم وهي العلة الضرورية التي تقود المجتمع متجاوزة على الشعور المبكر بالخيبة، هذا العنوان الأساسي هو الذي يسود الفترة الأنتقالية ويعزز من دور الدين بعملية الثورة والتغيير.
في الفترة التبشيرية للدين الجديد وحتى خلال مرحلة الأنتقال الأولية من النظر الفكري إلى التجسيد العملي هناك الكثير من الأخطاء التي تغتفر، والتي لا تسجل ولا تحتسب أخطاء كونها تضمحل وتتلاشى تحت شغف القاعدة والجماهير التي تهدف فقط إلى عبور مرحلة الماضي الظالم بكل ما فيها من قساوة أو ألم، الشعار الذي يرفع دوما من لا يعمل لا يخطأ ومن لا يمشي سريعا لا يعثر، المهم عند الناس أن يتخلصوا من واقع المرحلة السابقة ورموزها وثقافتها وفكرها مستندين أن عملية الهدم أسهل بكثير من عملية إعادة البناء، وتمضي الناس متجاوزة الأخطاء البسيطة والملاحظات التي لا تجد من يتبع أثرها في المستقبل حتى تحين لحظة القرار، لحظة الأختبار الأساسية والحاسمة والمحورية في التجربة عندما تتغير النخبة أو تتبدل بسبب الرحيل أو الأبتعاد.
هنا ينقسم المجتمع خضوعا للمنطق النفسي والسيكولوجي للإنسان وتتنوع القرارات فيمن سيحظى بالطاعة النخبوية، الطاعة والمثالية التي أسست الخطاب الثوري الأول والتي فجر فيها المجتمع ثورته الأولى وبها سار في مرحلة التأسيس والصيرورة، في هذه اللحظة التأريخية سيتذكر الكثير من عاش مرحلة الإنقلاب والتحول والتغيير كل الأخطاء والعثرات السابقة ليواجه خصما له رؤية أخرى وله خيار أخر، إنها مرحلة التخبط والتشرذم الذي ستكشف أن الدين لم يكن حلا كاملا ولم يكن النموذج المثالي لكل إشكاليات المجتمع، بدليل أن لم ينجح في حفظ وجوده وزخمه كما كان في أول مرة، في هذه اللحظة التاريخية ستتحول حرب الأفكار من مبدأها الأساسي لتطوير التجربة وتنميتها إلى حرب البحث عن الأخطاء والعثرات وضرب الفكرة الثورية من الداخل والتشكيك الذي سيقود لاحقا إلى التمزق بدل الوحدة.
مقالات اخرى للكاتب