بسم الله الرحمن الرحيم
بدأت في السنوات الاخيرة حملة متسارعة لتنفيذ مشاريع عمرانية إرتجالية في العتبتين المقدستين الحسينية والعباسية بمدينة كربلاء المقدسة ، دون دراسة علمية مسبقة وإستشارة الخبراء والمختصين في العمارة الاسلامية . . . مما تسبب في تغيير معالم عمارتي العتبتين المقدستين التي ظلت صورتهما العمرانية المتميزة محفوظة في ذاكرة المسلمين لقرونٍ عدة . . . وهي حصيلة نتاج جهود وخبرة متواصلة من البحث والتجديد والتواصل الحضاري والاهتمام الكبير الذي أبداه المعماريون المسلمون في البلدان الاسلامية خلال مختلف العهود ، للوصول الى أسمى وأرقى أشكال فنون العمارة التي تُعد تعبيراً صادقاً عن ارتباط المسلمين من أرجاء العالم الاسلامي بهذه المعالم الدينية المقدسة وتلبية لمتطلباتها الروحية .
وتعتبر قبة ومئذنتا العتبة الحسينية المقدسة من أقدم المعالم العمرانية المتميزة في عمائر العتبات المقدسة في العراق . . . وتبدو مهيبة في احتوائها على معانٍ روحية رسخت أسس فكر فناني العمارة الأوائل ، وشكلت معالم عمارة العتبة الحسينية المقدسة أساساً ونموذجاً يُقتدى به في العمائر الدينية اللاحقة للعتبات المقدسة التي شيدت في العراق .
وسبق أن حذرنا منذ سنوات عدة من خطورة المساس بعمارتي العتبتين المقدستين الحسينية والعباسية في كربلاء والمناطق التاريخية المحيطة بهما ، دون استشارة الخبراء والمختصين في العمارة الاسلامية ، ولكن من المؤسف ان تحذيراتنا لم تجد لها آذاناً صاغية في حينهِ .
ويحدث ذلك في غياب تام من قبل الجهات المعنية في الحكومات العراقية السابقة ، بسبب عجزها عن متابعة ما يحصل كونها بعيدة عن مستويات إدراك وإستيعاب وفهم حركة التطور الحاصلة في بلدان العالم ، وتفتقر الى عقلية قديرة وارادة حقيقية تنسجم مع الحاجة الملحة للبلاد والى حركة العمران والتطوير والارتقاء بالسياحة الدينية ، الى جانب الاهتمام والحفاظ على الموروث العمراني وحمايته ، لا سيما في المدن الدينية المقدسة .
ونتيجة التغيير الذي حصل في العناصر المعمارية الرئيسة لعمارة العتبة الحسينية المقدسة في السنوات الاخيرة ، لاسيما تسقيف صحن العتبة . . . أدى الى فقدان النظام المتبع في مباني العتبات المقدسة والى اسلوب التخطيط الخاص بها ، الذي أكدته البيئة ومتطلبات الجانب الديني والروحي ، الذي يتمثل ، بالسور الخارجي للعتبة الذي يعزل مكونات العتبة عن النسيج العمراني للمدينة القديمة . . . والصحن ( الفضاء المكشوف ) الذي يفصل السور الخارجي مع ( الحضرة الشريفة ) التي تحتل القسم الوسطي من العتبة ، وتشمل غرفة الضريح التي تعتبر بمثابة قلب العتبة ، وأروقة الصلاة والاواوين المحيطة بها ، وتعلو غرفة الضريح قبة المرقد الشريف التي تحف بها المئذنتان . . . ويعتبر الصحن عنصر التكوين الفضائي الوحيد المفتوح ، ووجوده في هذه الحالة مهم ومتمم رئيسي الى منظومة العناصر المعمارية التكوينية الاخرى للعتبة. وقد إطلعنا مؤخراً على خبرٍ تناقلته بعض المواقع الالكترونية ووسائل الاعلام ، وهو : ـ ( ان الامانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة في كربلاء قد شرعت بوضع المخطط النهائي لرفع قبة مرقد الامام الحسين (ع) لاكثر من سبعة أمتار . . . وتوسعة الحرم الحسيني الطاهر من خلال تضييق الأعمدة الداخلية لهُ وفتح مساحات اضافية ) ، حسب ما صرح به رئيس قسم المشاريع الاستراتيجية والاستثمارية في العتبة الحسينية المقدسة . . . وأضاف أيضاً : ( بسبب تسقيف الصحن الحسيني وصعود بعض القبب الصغيرة جعلت جسم العتبة المطهرة يتغير عن شكله الأصلي القديم . . . مما إستدعى الى تخطيط جديد للقبة من أجل زيادة إرتفاعها ، لما لها من تأثيرات بصرية وروحانية مهمة لمحبي الامام الحسين (ع) ) .
ومن خلال دراسة أبرز معالم الموروث العمراني لعمارة العتبة الحسينية المقدسة المتمثلة بالقبة والمئذنتين وبقية العناصر والمفردات المعمارية المتميزة فيها ، والمأخوذة عن كل الثقافات والاشكال الفنية القديمة الراقية . . . نورد بعض الملاحظات المهمة التي توضح التأثيرات السلبية وخطورتها في حالة تنفيذ مشروع زيادة ارتفاع قبة مرقد الامام الحسين (ع) وهي : ـ
أولاً : عند الشروع بتنفيذ مشروع تسقيف الصحن الحسيني المطهر أبدى العديد من الخبراء والمختصين في العمارة آرائهم حول تداعيات تنفيذ هذا المشروع وتأثيره على تغيير الطابع المعماري الفريد الذي تميزت به عمارة العتبة الحسينية المقدسة لقرونٍ عدة . . . منهم : المعماري الكبير الدكتور محمد مكية الذي وصف عملية التسقيف ، حيث قال : ( هل رأيتم صحن مسجد أو ضريح أو دير يُحجب عن السماء . . . وما مصير القبة ومنارتيهما ، وهي تبدو ، بعد التسقيف جسماً مكوراً ملقى على السطح . كان يدلف الزائر من فضاء الصحن المفتوح الى السماء مملوءاً بالطمأنينة التي يبعثها المكان ، بينما أخذ يدلف حالياً الى مبنى مغلق لا إلى روضةٍ ضوؤها الشمس وهواؤها الفضاء ، تأتها الطيور المحرمة على الصياد من ألف عام ويزيد . أما فَكّرَ المسقف بإلفتها للمكان ، وهي الحمائم التي جعلها المخيال الشعبي تطوف حول مذبح الامام الحسين (ع) .
أما المعماري الدكتور خالد السلطاني الاكاديمي وأستاذ العمارة في جامعة بغداد سابقاً ، فقد وصف عملية تسقيف صحن العتبة الحسينية المقدسة ، حيث قال : ( ان فعل التسقيف غَيّرَ جذرياً وبدّل من تراتبية وسياقية عناصر المنظومة التكوينية التي اعتمد عليها تصميم الروضة الحسينية ، فالقبة الشامخة ، وهي مركز التكوين لاترى الآن رغم ارتفاعها العالي ، فهي محجوبة بصرياً عن بقية مفردات التصميم ، كما ان قيمتها التصميمية قد فقدت كثير من أهميتها بجوار سطوح التسقيف الهائلة التي ظهرت فجأةً بجوارها ، والتي أساءت أيضاً التى تراتبية واتساق الكتل الاخرى المجاور لها ، وحال المئذنتين لا يختلف أيضاً عن مصير القبة ومجاوراتها ، فهما أيضاً لا تشاهدا من قبل زوار المكان ، لكن الاسوأ في الامر هو فقدان التكوين لأهم سمة خاصة به ، وهي سمة " الظل والضوء " التي اشتغل عليها مصممو عمارة الروضة سنين عديدة لتصل الى حلها الامثل في توزيع أشكال الايوانات والمداخل وبقية التفاصيل الاخرى المثرية للحل التصميمي ، والتي يتعين أن ترى بوجود عنصر الظل والضوء . كما تم التفريط بتأثير عمل هذا العنصر على السطوح الملونة ( القاشانية ) ذي البريق المعدني ، وما سلبها قيمتها الجمالية التي امتازت بها سطوح وواجهات الروضة ) .
ثانياً : لايمكن تضييق الجدران الضخمة الحالية الحاملة لقبة المرقد الشريف والتي سماها رئيس قسم المشاريع الاستراتيجية في العتبة بـ ( الاعمدة ) ، التي يعود بناؤها الى أكثر من سبعة قرون . . . دون ان تكون هناك جهة استشارية كفوءة ومختصة من الخبراء تشرف على تنفيذ هذا العمل . . . وان أي إخلال بالهيكل الانشائي الحامل للقبة يمكن أن يتسبب في حدوث تشققات خطيرة في جدرانها .
ثالثاً : إن زيادة إرتفاع قبة مرقد الامام الحسين (ع) من خلال بناء قبة خارجية تغطي القبة الحالية ، سيؤدي حتماً الى عدم تناسق ارتفاع القبة الجديدة مع ارتفاع المئذنتين اللتين تقعان على جانبيها ، مما يستدعي أيضاً الى زيادة في ارتفاع المئذنتين .
رابعاً : ان زيادة ارتفاع قبة مرقد الامام الحسين (ع) والمئذنتين اللتين تقعان على جانبيها ، يستدعي زيادة في ارتفاع قبة مرقد العباس (ع) والمئذنتين اللتين تقعان على جانبيها أيضاً ، لأن المشكلة نفسها في رأي القائمين على هذه المشاريع الارتجالية ( غير المدروسة ) موجودة أيضاً في عمارة العتبة العباسية المقدسة نتيجة تسقيف صحنها المطهر .
ان الزيادات المرتقبة والارتجالية في ارتفاع قبتي مرقدي الامام الحسين (ع) وأخيه العباس (ع) ومآذنهما ، والتغيير الذي حصل لعناصر المنظومة التكوينية لعمارتي العتبتين المقدستين ، نتيجة تسقيف صحنيهما ، سينجم عنه تشويه معالم الصروح الدينية الخالدة في تاريخ الحضارة الاسلامية وتحويلها الى أشكال عمرانية غريبة لاتمت بصلةٍ الى شكلها الاصلي القديم ، لاتنتمي للمكان ، ولا تنسجم مع الموروث العمراني والحضاري الذي تميزت به مدينة كربلاء المقدسة خلال قرونٍ عدة . .
مقالات اخرى للكاتب