لقد دهشت كثيرا"حيال ردة الفعل الغاضبة التي صدرت عن قطاعات واسعة من المجتمع العراقي ، إزاء عمليات السلب والنهب والتخريب التي تعرضت لها الممتلكات العامة والخاصة في محافظة تكريت وقبلها في محافظة ديالى ، بعد أن زعم (تحريرها) من براثن احتلال الجماعات المسلحة ، التي طالما وضعت عناصرها دريئة للتشنيع والتقريع باعتبارها المتهم الأول والوحيد لممارسة هذا السلوك من القرصنة والزعرنة . ولعل هناك من سيستهجن موقفي هذا ويستخف بطريقة نظرتي للأمور إزاء تداعيات هذه الحالة المأساوية ، من منطلق كوني لم أشاطر جموع الغاضبين مشاعرهم المنددة ، ولم أبادر لإعلان ردة فعل مشابهة أو موازية لردة فعلهم الطبيعية ، لا بل ذهبت باتجاه إبداء دهشتي واستغرابي لمواقفهم المشروعة ! .
والحقيقة إني لم أدهش واستغرب لأن الناس تحتج على هذه الشاكلة من العنف والغضب ، إزاء من يسرق ثرواتها ويحرق ممتلكاتها ويمحق تاريخها ، فذلك من أبسط حقوقها الإنسانية وأدنى مستويات تعابيرها العاطفية ، إنما أتصرف على هذا النحو لكوني اعتقد بان هذا الضرب من الممارسات اللاخلاقية والتصرفات الاانسانية ، ما هي إلاّ تعبير/ تجسيد لظاهرة (الفرهود) التي استوطنت سيكولوجية الإنسان العراقي ، فضلا"عن تجليات / تمظهرات نزعة (الانتقام) التي استحكمت في وعيه واستشرت في علاقاته . ولا يظنن المرء إن هذه اللوثة مقصورة على المجتمع العراقي دون سواه ، إنما هي حالة نكوصية عامة يصاب بها كل مجتمع استشعر أفراده غياب رادع السلطة / القانون وذهاب وازع الضمير / الأخلاق . والشيء الذي يسوغ لي التركيز على الشخصية العراقية - في هذه الحالة – أكثر من غيرها ، هو إن الظاهرة المعنية سرعان ما تقترن بنزعة الانتقام من كل ما له علاقة بالآخر ، كما لو أن مظاهر فوضى الأولى تحرر كوامن الثانية من قيودها وتطلق لها العنان دون عواقب ، وهو الأمر الذي يجعلها تأخذ هنا أبعادا"غير مألوفة واتجاهات غير منطقية ، لا تتلائم مع ما يشاع عن طبيعة هذا المجتمع من خلفيات حضارية وسرديات تاريخية ورمزيات دينية .
وإذا كنت أتحاشى إزعاجكم بمفارقات هذا المجتمع الغريب في طباعه والعجيب في تصرفاته ، ليس فقط لكونه أول من اجترح أنماط (الحضارة) وابتدع أول صيغ (القانون) وابتكر أول مظاهر (التدين) فحسب ، بل وكذلك كان أول من شرع لأشكال (نحر) الرقاب و(سمل) العيون و(جدع) الأنوف) و(حرق) المدن و(سبي) النساء ، بالإضافة طبعا"إلى إباحة (الفرهود) للممتلكات وإجازة (التنكيل) بالأسرى . فاني بالمقابل ملزم بتذكيركم بما جرى للطائفة اليهودية عند منتصف الاربيعنيات من القرن الماضي ، حيث استبيحت أموالهم وممتلكاتهم وحتى أرواحهم من قبل العامة والخاصة ، دون أن تشفع لهم مواطنيتهم العراقية التي امتدت لمئات – إن لم يكن – لآلاف السنين . لا بل والأنكى من ذلك إن (الرمزية الوطنية) التي كانت تحملها العائلة المالكة في العهد الملكي ، لم تحول دون استباحة ممتلكاتها واسترخاص أرواحها ومن
ثم التنكيل ببعض أفرادها . وان كنتم قد نسيتم هذا ، فكيف لكم نسيان مشاهد الدراما الإنسانية التي عصفت بالعراق ، بعد كوارث الغزو الأمريكي عام 2003 وإسقاط نظامه السياسي ، حيث مظاهر السلب والنهب والتخريب والحرق طالت الأخضر واليابس ، دون أن تنفع أو تردع مناشدات المرجعيات الدينية والسياسية للعدول عن تلك الأفعال المشينة والممارسات المخجلة ، والتي ستبقى تداعياتها عالقة في ذاكرة الأجيال القادمة ، لتكون لها بمثابة مادة للتندر والتهكم على ما فعله الآباء والأجداد من ضروب ؛ دناءة النفس وقلة المرؤة وضعف الإيمان وانعدام الوطنية ! .
ولهذا عليكم أن تتوقعوا دائما"أن لا شيء يعيق انطلاق هذا المارد المخيف من قمقمه ، كلما أصبحت قرية أو محلة أو مدينة أو محافظة مسرحا"للصراعات المسلحة بين الجماعات والمليشيات ، على خلفية الكراهيات الطائفية والتباغضات العرقية والحساسيات القبلية والاستقطابات المناطقية . لاسيما وان هناك العديد من القوى الداخلية والخارجية الضالعة في مخططات التقسيم للجغرافيا والتفكيك للتاريخ والتفتيت للاجتماع ، تدفع باتجاه / وتشجع على ممارسة مثل تلك الأعمال اللصوصية والتخريبية ، لاعتبارات تتعلق بمصالحها السياسية وأهدافها الإستراتيجية في المنطقة .
مقالات اخرى للكاتب