أذا كان يحق للعراقيين أن يفخروا فأن لهم في ثورة العراق الكبرى ( ثورة العشرين) خير ما يعتزون ويفخرون به فلقد أظهرت هذه الثورة المباركة بفتوى المرجعية الرشيدة المعدن الأصيل لأبناء شعب العراق في مواجهة عدوهم الحقيقي بعد سنوات قليلة من دخول القوات البريطانية للعراق بعد هزيمة الدولة العثمانية وخسارتها الحرب العالمية الأولى 1914 وما لحقها من إحتلال بريطاني مباشر للعراق بعد دخول القوات البريطانية بقيادة الجنرال مود بغداد في آذار 1917 وأعلانه الشهير ( نحن جئنا محررين لافاتحين) ولم تكن ثورة العشرين وكما حاول البعض أن يصورها وليدة حادثة معينة أو ضرف شخصي أو أجتهاد ديني أو نعرة عشائرية بل هي كانت ثورة كل العراق أنتجتها مجموعة متباينة من الضروف المحلية متعددة الجوانب منها :
•1- تنامي الحس الوطني لكثير من العراقين في الولايات المهمة من العراق مثل بغداد والكاظمية والنجف وكربلاء وقيام مجموعة من الزعماء المحلين بالتصدي لموضوع قضية العراق ومطالباتهم بالاستقلال ومن أبرز هؤلاء في بغداد والكاظمية الشيخ جعفر أبو التمن والسيد محمد الصدر والشيخ مهدي الخالصي ويوسف السويدي وعلي البازركان ومحمد مهدي البصير وأحمد الشيخ داود وفي النجف والشامية برز السيد علوان الياسري والسيد نور الياسري والسيد قاطع العوادي والشيخ عبدالكريم الجزائري والشيخ محمد جواد الجواهري والشيخ عبد الواحد الحاج سكر رئيس عشائر آل فتلة في الفرات الأوسط وفي كربلاء برز الدور المؤثر للميرزا محمد رضا الشيرازي نجل المرجع الاعلى الميرزا محمد تقي الشيرازي في أثارة الحماسة في نفوس الناس وكذلك هبة الدين الشهرستاني وحسين القزويني .
•2- أعتقال وأبعاد الميرزا محمد رضا الشيرازي نجل المرجع الأعلى الشيرازي من قبل القوات البريطانية قبل أيام قليلة من إندلاع الثورة والذي أثار موجة كبيرة من السخط والرفض في صفوف رجال العشائر وزعمائهم لما كان له من دور كبير في التهيئة للثورة ورفض الإحتلال البريطاني .
•3- العامل الاقتصادي الذي كان من الاسباب المهمة التي عجلت بإعلان الثورة بعد ما قام به البريطانيون من مصادرة مساحات واسعة من الأراضي الزراعية وتوزيعها على قلة من الأشخاص الذين تعاونوا معهم في مناطق الفرات الأوسط وجنوب العراق أما في الولايات والمدن فكانت الوظائف في أغلبها تمنح للاجانب من الهنود والأنكليز والاتراك .
•4- كذلك هناك سبب مهم وهو التضييق على رجال الحركة الوطنية ومطاردتهم والزج ببعضهم بالسجون لأنهم عارضوا سلطة الاحتلال البريطاني في بغداد وباقي الولايات العراقية كما حدث خلال محاولتهم القبض على السيد محمد الصدر ويوسف السويدي وجعفر ابو التمن وكذلك أعتقال الشيخ شعلان أبو الجون شيخ عشيرة الظوالم .
مقدمات الثورة :
كما أن لكل ثورة أسبابها كذلك لها بعض المقدمات التي تهيأ لها وتعد خططها وبرامجها والتمهيد لثورة العشرين كان في وقت مبكر من وصول القوات البريطانية للعراق في العام 1914 وحصول أولى المواجهات العسكرية داخل الأراضي العراقية في الشعيبة والفاو والقرنة والحويزة والتي قادتها الكثير من القيادات الدينية متمثلة بشيخ الشريعة والسيد محسن الحكيم والشيخ مهدي الخالصي ومحمد سعيد الحبوبي ونجل المرجع الأعلى السيد اليزدي والتي انسحبت بعد دخول القوات البريطانية العراق وأخذت على عتقها دوراً جديداً وهو التحريض ضد تلك القوات ووجوب مقاومتها وكذلك التهيئة للثورة العراقية الكبرى.
تاريخياً تعتبر شخصيات مثل السيد علوان الياسري والشيخ عبد الواحد الحاج سكر والسيد قاطع العوادي والسيد محمد رضا الصافي أول المنادين بالثورة المسلحة ضد البريطانين حيث حدث أول أجتماع في ربيع 1919 بين السيد علوان الياسري والسيد محمد رضا الصافي في النجف وقرروا أن الوقت قد حان لتخليص البلاد من الأنكليز وبعدها أنضم اليهم الشيخ عبدالكريم الجزائري والشيخ عبدالواحد الحاج سكر ومن ثم السيد نور الياسري الذي كان معروفاً بمكانته المقدسة في قلوب الناس .
وتعتبر الرسالة التي بعث بها مجموعة من رجال الدين ووجهاء النجف والمشخاب إلى الشريف حسين في تموز 1919 بعد أجتماع لهم في بيت آل شلاش وهم علوان الياسري ونور الياسري وقاطع العوادي وعبدالواحد الحاج سكر وأرسلت الرسالة بواسطة الشيخ رضا الشبيبي مطالبة بتنصيب عبدالله ملكا على العراق من المقدمات المهمة في رسم مستقبل العراق بعد رحيل القوات البريطانية والذي أعقبه إعلان العراقيين في دمشق فيما عرف بمؤتمر دمشق في 8 اذار 1920 إستقلال العراق ومبايعة الأمير عبدالله ملكا على العراق .
أما الإجتماع الذي عقد في نيسان 1920 بمناسبة المبعث النبوي الشريف في 27 رجب في بيت علوان الياسري وبحضور الميرزا محمد رضا الشيرازي أبن المرجع الأعلى وطرح في الإجتماع فكرة القيام بثورة مسلحة بالعراق فيعتبر من أهم المراحل التاريخية في الإعداد لثورة العشرين رغم أن مشروع إعلان الثورة قد تأجل بسبب معارضة الشيخ خيون العبيد لها فتمّ الأتفاق أخيراً على تأجيل القيام بالثورة في الوقت الحاضر وعلى العمل في التمهيد عن طريق التوعية الدينية والوطنية والبدء بحركة العصيان المدني .
إعلان شرارة الثورة بالرميثة :
كان لأندلاع الثورة المسلحة في الرميثة عدة أسباب أهمها: أما شرارة الثورة الأولى فأنها جرت بسبب توقيف رئيس عشيرة الظوالم شعلان ابو الجون من قبل الضابط البريطاني هيات معاون الحاكم السياسي في الرميثة فأقتحم عشرة رجال أشداء من أفراد قبيلته مكان حجزه وحرروه بعد قتلهم الشرطيين .
إصدار الفتوى الشرعية أو ما عرف ( بالفتوى الدفاعية) للميرزا آية الله آمحمد تقي الشيرازي بعد أشتداد معارك الرميثة وهذا نصها : ((مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين، ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم، رعاية السلم والأمن، ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية، إذا امتنع الانكَليز عن قبول مطاليبهم )).
إعلان الثورة بالنجف :
إنسحب الانكَليز من النجف في ليلة 28 شوال 1338هـ، الموافق 15 تموز 1920، وذلك على أثر احساسهم بغليان الثورة في الفرات الأوسط، فلم يبقَ من الحامية الانكَليزية في البلدة سوى قوة رمزية مؤلفة من بضعة أفراد من الشرطة الايرانيين ومعهم حميد خان، معاون الحاكم السياسي في النجف والمعين من قبل الانكَليز منذ 11 آب 1917م وكان الحادث الذي جرى في 21 تموز بداية لإعلان الثورة حيث قتل أحد افراد الشرطة رئيسه على مشهد من الأهالي وأعلن على أنه قتله بدافع الوطنية والذود عن حرمة الاسلام .
وصارت النجف، بعد إعلان الثورة فيها تحكم نفسها بنفسها على الطريقة العشائرية كما تمّ أنشاء حكومة مؤقتة من قبل النجفيين للنظر في الشؤون العامة التي تتصل بالثورة .
معركة الرارنجية :
يصف شيخ المؤرخين علي الوردي معركة الرارنجية قائلاً ( يمكن أعتبارها نقطة تحول في ثورة العشرين وأعظم معاركها على الأطلاق فأن الكارثة التي حلت بالأنكليز فيها ووفرة الغنائم التي وقعت بأيدي العشائر أصبحت محور دعاية كبرى للثورة ) المصدر (علي الوردي لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث الجزء الخامس ص 261) وبالفعل تعتبر هذه المعركة من الفواصل التأريخية المهمة في تأريخ العراق الحديث وهي أقرب إلى الملحمة منها إلى المعارك العسكرية وكان الشيخ عبد الواحد هو قائدها وبطلها الأول والرارنجية أسم لمناطق زراعية واسعة بين الحلة والكفل تبعد عن الأولى 12 ميلا وعن الثانية 8 أميال وتبلغ مساحتها 4000 دونم وفيها حدثت واحدة من أعظم وأكبر معارك ثورة العشرين وهي معركة الرارنجية ففي 23 تموز 1920 حيث كان الرتل البريطاني المسمى ( برتل مانجستر ) بقيادة الكولونيل لوكل والذي بلغت أعداده أكثر من 800 مقاتل يعسكر قرب قناة الرستمية القريبة من الرارنجية للأستراحة وهو في طريقه إلى الكفل وصلت رسالة بعد ظهر ذلك اليوم إلى الشيخ عبد الواحد الحاج سكر الذي كان يعسكر مع العشائر الثائرة غرب الرارنجية من أحد رؤساء خفاجة تنبأه بمقدم الرتل البريطاني فأرسل الشيخ عبد الواحد بالحال أحد أتباعه لطلب النجده من عشائر الكفل فهبت لنجدته كل العشائر الثائرة هناك وقبيل غروب الشمس وحين كان الرتل البريطاني مطمأناً زحفت أليه العشائر بقيادة الشيخ عبد الواحد الحاج سكر ومرزوق العواد شيخ عشيرة العوابد من ثلاث جهات جنوباً وشرقاً وغرباً أستمرت المعركة أكثر من ست ساعات أستبسل فيها الثوارأستبسالاً نادراً وأبدوا شجاعة كبيرة في مقارعة البريطانين وصلت حد العراك بالسلاح الأبيض مستخدمين وسائلهم البدائية مثل الفالة والمكوار والخنجر ولم يستطع النجاة من المعركة من البريطانين إلا نصفهم كما ذكر الكولونيل آرنولد ولسن الحاكم البريطاني للعراق بعد ذلك في مذكراته فيما وصفها هالدين قائد القوات البريطانية بالعراق ب(الكارثة ) كان حصاد الثوار وغنائمهم من المعركة قد بلغت 52 رشاش وأعداد كبيرة من الحيوانات ومقادير لاتحصى من العتاد والنقود والأطعمة وكان الشيخ عبد الواحد يعطي لكل من يأتي له برشاش بريطاني 15 ليرة ذهب فتجمع لديه أربعون رشاشاً وكان بينها أيضاً مدفع عيار 18 رطل .
نهاية الثورة :
كان لإستمرار الثورة لشهور طويلة وفي مساحات واسعة من العراق وأبتعاد أغلب الثوار عن بيوتهم وأهليهم بالإضافة إلى ما كانوا يعانونه من ضيق الحال بعد نفاذ الذخيرة والسلاح وما كان يحصل عليه عدوهم الجيش البريطاني من زيادة ودعم في سلاحه وعتاده وجنوده وكذلك طائراته مضافاً لكل ذلك ما كان يحصل من مؤامرات في كواليس السياسة بين بعض الشخصيات المحسوبة على العراقيين وقيادة سلطة الإحتلال البريطاني ومطالبات بضرورة العمل الحثيث للقضاء على الثورة العراقية والبدء في صفحة جديدة من العلاقات السياسية قوامها الحكومة الانتقالية التي ستكون تحت الإنتداب البريطاني وربط العراق باتفاقية طويلة الأمد تضر بمصالحه ودوره في المنطقة ، كل ذلك شجع الجنرالات البريطانين لأستخدام أقسى أنواع البطش والتنكيل بالثوار والمناطق الثائرة حتى انهم حرصوا على أن يجعلوا من تلك المناطق دروس في البطش والتنكيل لإخافة وإرعاب من بقي صامداً في مواجهتهم وكانت مدينة النجف وما تعرضت له من عمليات إحراق وتدمير دليل على حجم المأساة التي كان يتعرض لها الثوار من أجل رمي السلاح والإستسلام حيث يروي لنا جعفر الخليل في كتاب شيخ المؤرخين علي الوردي لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث القسم الثاني ( أن نيران القرى المشتعلة ظلت تشاهد عدة أيام من سطوح البيوت في النجف وكان التل المعروف بأسم ( الجبل ) مما يلي محلة المشراق بالنجف مكاناً يقصده الناس في الإمسيات ويطيلون المكوث فيه لليل ليستعرضوا النيران التي أضرمها الإنكليز في بيوت الفلاحين وفي مزارعهم ومخازنهم والتي كان يراها الرائي من فوق الجبال كسلسلة من البراكين الثائرة التي لا تخمد نيرانها ولا تفتر ) وكان هناك عاملاً مهماً إضافة إلى كل ماذكرنا وهو ضرب الروح المعنوية للثوار وعموم أبناء المناطق الثائرة من خلال قيام الإنكليز والمتحالفين معهم من أدخال العناصر التي عملت بجد على أضعاف الروح المعنوية وبث الخوف والرعب في قلوب الناس حيث يبالغون بتصوير ضخامة الجيوش البريطانية الغازية التي يعدونها لسحق الثورة والتخلص من الثوار وكذلك عملت هذه العناصر على نقل كل ما يقع تحت عينيها من معلومات عن أماكن تجمع الثوار وما يكون تحت أيديهم من أمكانيات عسكرية وتسليحية أضف لذلك كثرة الخسائر التي مني بها الثوار بالرجال والتي تحولت مع مرور الوقت إلى عبء ثقيل على قادة الثورة حيث قدّر الجنرال هالدين قائد القوات البريطانية بالعراق حجم خسائر الثوارعقب أنتهاء الثورة ب8450 رجل بين شهيد وجريح وذكر هالدين انه أستند على تقريره على عدد القتلى الذين عثر على جثثهم وعلى التقارير الواردة من مختلف المصادر وعلى سجلات الدفن في كربلاء والنجف .
ختماماً نقول أن ثورة العشرين تظل نقطة مضيئة في تاريخ العراق الحديث ورمز من رموز فخر العراقيين ووطنيتهم بما حفلت به من وقائع خالدة في الرميثة والرارنجية والعارضيات والكوفة والكفل وأبو صخير وفي بعقوبة وتلعفر وما سجلته لها الثلة البطلة المؤمنة بالعراق وحريته وسيادته أمثال الميرزا الشيرازي وولده والشيخ عبد الواحد الحاج سكر شيخ عشائر آل فتلة والشيخ شعلان أبو الجون شيخ عشيرة الظوالم والشيخ مرزوك العواد شيخ عشيرة العوابد والشيخ عبد الكريم الجزائري والسيد كاطع العوادي والسيد نور الياسري والسيد علوان الياسري والسيد محسن أبو طبيخ والشيخ سعدون الرسن والشيخ شعلان العطية رؤساء عشيرة الأقرع ويوسف السويدي وأبو القاسم الكاشاني وجعفر أبو التمن وعلي البازركان والشيخ علوان الحاج سعدون رئيس قبائل بني حسن والشيخ صلال الفاضل الملقب ( بالموح ) من شيوخ عفك وعشائر طفيل بالحلة وعشائر الإبراهيم وعشائر بني حجيم والظوالم في السماوة والناصرية وكذلك لاننسى الدور الكبير للمرأة العراقية الأم والأخت والزوجة التي ضحت بالغالي والنفيس من فلذات الأكباد وتحمل المشاق والوقوف إلى جوار الرجل في ثورة العراق الكبرى وعلى طول ميادين الثورة وساحات الجهاد .
مقالات اخرى للكاتب