ونحن على اعتاب سنة ميلادية جديدة يبدو العراق اليوم وكأنه على اعتاب البدايات الحقيقية لنهاية الكثير من المشاريع التقسيمية والتخريبية التي بدأت سلسلتها منذ الغزو الامريكي للعراق في نيسان 2003 وما أعقبه من تدمير ممنهج لبنيته التحتيه والقضاء التدريجي على كل أدواره السياسية والاستراتيجية في المنطقة، كما خططت له الإدارات الامريكية المتعاقبة وبموافقة النخب السياسية والدينية العراقية، التي كانت دوما على علم بكل ما يخطط لمستقبل العراق، ولم تكن حكومات بغداد المنتخبة إلا شكل كارتوني هزيل لتنفيذ تلك المخططات المشبوهة التي كانت ترتبط دوماً بمصالح استراتيجية عليا للولايات النمتحدة الامريكية وحليفتها اسرائيل في سعيها للقضاء على عواصم مراكز القرار للقوى المتنفذة في العالم العربي والإسلامي، فقبل سنوات قليلة سبقت ظهور داعش تنظيم”داعش” كان يمكن للمساعي الحميدة وتأثير دول الإقليم وخصوصاً العربية المؤثرة في الوضع العراقي أن تحقق بعض النجاحات في الوضع العراقي المتردي منذ اندلاع حروبه الطائفية التي اعقبت الاحتلال الامريكي للعراق وخصوصا بعد حادثة تفجير الامامين العسكريين في سامراء في بداية العام 2006 لكن للأسف كل تلك الجهود الإقليمية والدولية لم تحقق ولو الجزء اليسير من مبتغاها سواءاً في محاولات الجامعة العربية التي سعت لعقد أكثر من مؤتمر دولي في القاهرة وشرم الشيخ وعواصم اخرى لمعالجة القضية العراقية الشائكة بين مكوناته الرئيسية “الشيعة والسنة والاكراد”.
أو في المبادرات الدولية والعربية كما حدث في مؤتمر مكة في المملكة العربية السعودية الذي رعته منظمة المؤتمر الاسلامي في اكتوبر/2006 .
ومع استمرار التجاذبات بين الأطراف السياسية واستحالة جمع الفرقاء على قواسم مشتركة لإدارة الدولة بعيداً عن سياسة التخندق والإقصاء والاحتماء بالاجنبي سواءاً كان عربياً أو أمريكياً أو ايرانيا أو تركياً، فإن الوضع العراق كان يزداد سوءاً وينذر بعواقب وخيمة وعلى كل المستويات، دون أن تتحسس النخب السياسية حجم المخاطر المحدقة بالعراق لتندلع مع نهاية العام 2012 موجة من الاعتصامات الشعبية في المحافظات ذات الاغلبية السنية مثل الموصل وصلاح الدين وكركوك والرمادي، مطالبة الحكومة ومجلس النواب باطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات والغاء المادة 4 ارهاب وحل هيئة المسائلة والعدالة وتعديل الدستور والموافقة على إقامة الاقليم السني، والذي كان يعتبر من أخطر المطالبات التي تقدمت بها القيادات السياسية والدينية اللمعتصمين، وبدل الجلوس الى طاولة المفاوضات ومناقشة مطالب المحتجين وحل المشاكل العالقة بين الحكومة والمعتصمين بطريقة ودية وسلمية، فإن الاعتصامات تحولت بالتدريج الى مظاهر مسلحة ومطالبات عنيفة بالزحف الى بغداد ودخولها بالقوة، ثم لتتحول الى مصادمات مسلحة في أكثر من مكان لتنتهي مع نهاية العام 2013 بطريقة مأساوية رغم وجود اتفاق مسبق على وقف حركة الاعتصامات وانسحاب المعتصمين، ليشهد العام 2014 بداية الظهور الحقيقي المسلح لتنظيمات “داعش” التي وجدت لها بيئة خصبة للانتشار والتنظيم والتحشيد بين سكان تلك المناطق المحتجة والتي فشلت في تحقيق أي من مطالبها التي خرجت معتصمة من أجلها، ليتوّج المشهد العراقي بالمجابهة المسلحة والعلنية بين قوات الجيش العراقي وتلك التنظيمات الارهابية المسلحة التي تمكنت وبوقت قياسي ومع بداية حزيران 2014 من بسط نفوذها المسلح في أكثر من محافظة عراقية ابتداءاً من محافظة نينوى وحتى مشارف بغداد مروراً بكركوك وصلاح الدين والرمادي وديالى، مع تراجع وانكسار عسكري للقوات المسلحة العراقية وصمت وتفرج امريكي على كل مايجري في الداخل العراقي، رغم خطورة الازمة وتهديد المجاميع المسلحة الارهابية للعاصمة بغداد بعد اقترابها لمسافة أقل من 30 كيلو متر في منطقة ذراع دجلة المحاذية لبغداد شمالاً، عند منطقة التاجي والمشاهدة والضلوعية، وأصبح التدخل الامريكي مشروطاً بتشكيل حكومة عراقية جامعة ترضى عنها جميع الاطراف العراقية، رغم كل ما نتج من تلك المواجهة والاستباحة التي اعقبت هزيمة الجيش واحتلال تنظيمات داعش لمساحات شاسعة من العراق، تمثلت بتشريد الملايين من العراقيين من مدنهم ومساكنهم وتحولهم الى نازحين وقتل الالاف من المدنيين العزل وتهجير الكثير من مكوناته الدينية والعرقية مثل المسيحيين والايزيدين والتركمان والشيعة، ليصل الخطر بعد ذلك الى مشارف اقليم كوردستان العراق بعد ان تقدمت تلك التنظيمات من مواقعها الجديدة في سنجار وبعشيقة باتجاه اربيل والسلمانية لتجد الولايات المتحدة الامريكية نفسها مظطرة للتدخل العسكري امام الظغط الدولي وما شكلته تلك التهديدات من مخاطر كبيرة على مصالحها القومية والامنية، وخصوصاً بعد التدخل الايراني والروسي سواءاً بالسلاح أو المشورة أو الاستخبارات العسكرية، الذي أعقب الفتوى الشهيرة للمرجع الشيعي الاعلى السيد السيستاني والتي اوجب بها حق الجهاد الكفائي المقدس ضد “داعش”. والذي أسهم كثيراً بايقاف حالة التداعي للقوات المسلحة ومنعها من الوصول الى اطراف بغداد ومن ثم الانتصار على تلك التنظيمات بأكثر من مواجهة مسلحة كما حدث في آمرلي وجرف الصخر وديالى.
الواقع العراقي اليوم يختلف بصورة جذرية عن كل ما سبقه خلال السنوات المنصرمة، وخصوصاً في ظل الاجواء المحمومة للقوى السياسية التي يبدو انها باتت تتسابق للحصول على أكبر جزء من الغنيمة وهو العراق، بعد ما حصل من تداعيات كبيرة سواءاً من التظاهرات التي انطلقت في تموز هذا العام على خلفية تذمر الشارع العراقي عن أداء الحكومة وعدم ايفائها بأبسط مستلزماتها اتجاه المواطن، وكذلك عدم رضى المرجعية الدينية في النجف عنها والتعبير عن ذلك في أكثر من مناسبة، وفشل كل الحلول الترقيعية التي قام بها السيد العبادي طوال الشهور المنصرمة، لاجراء عملية الاصلاح التي وعد بها في برنامجه الحكومي، بعد الاعلان عن افلاس خزينة الدولة العراقية والتصريح الحكومي لرئيس الوزراء العراقي السيد العبادي وأكثر من مسؤول أن ميزانية العام القادم 2016 ستكون ميزانية ديون ورهن معظم المرافق الحيوية للدولة العراقية كالنفط لدى الشركات العالمية الدائنة وربطها بشروط صندوق النقد الدولي، وكما عودنا ساسة العراق ونخبه الحاكمة واحزابه السياسية والدينية فانه لايهمها مستقبل العراق بقدر ما يهمها تأمين مصالحها الضيقة في حدود انتماءاتها العرقية والطائفية دون الالتفات الى المصالح الحيوية العميقة للعراق والشعب العراقي، حيث شهدت الايام المنصرمة ظهور أكثر من مشروع عبر رحلات مكوكية واجتماعات وجولات مهمة لسياسيين عراقيين يعتبرون جزء من العملية السياسية، كما حدث في مؤتمر الدوحة للقوى العراقية السنية المعارضة للعملية السياسية الذي عقد تحت رعاية وزير الخارجية القطري خالد العطية، لوضع اللبنات الاساسية لمشروع الاقليم السني، في سبتمبر/ايلول الماضي رغم أن أغلب الحاضرين هم من المشاركين في العملية السياسية، ثم اعقبه الجولة الخليجية لرئيس اقليم كوردستان العراق مسعود البرزاني الى السعودية والامارات. وما ترشح عن تلك الزيارة من دعم خليجي وسعودي لمشروع اقامة الدولة الكوردية الكبرى الذي سيتشكل من اكراد العراق وايران وتركيا وسوريا، مع دعم مالي بقيمة 8 مليار دولار، لذلك المشروع، وفي خضم هذه التفاعلات يبرز التدخل العسكري التركي في الموصل والذي كشف عنه يوم الجمعة الماضي مع دخول قوات عسكرية تركية تقدر ب 1500 مقاتل وبعض المدرعات والدبابات الى قاعدة الزلكان المحاذية لحدود الموصل وبموافقة كوردية وبعض الاطراف المهمة في الحكومة العراقية ومع الصمت المطبق للقوى السياسية والحكومية اتجاه هذا التدخل السافر والانتهاك للسيادة العراقية يبرز أكثر من سؤال عن مصير ومستقبل العراق في القادم من الايام؟هل حان وقت بداية النهايات في العراق! وكيف سيكــــــون شكل الخارطة العراقية في ظل المطالبات المستـــــــمرة للمكون الكردي بقيام الدولة الكردية في شمال العراق واصرار القيـــادات السنية السياسية والدينية على اقامة الاقليم السني “المفخخ” والذي من المفترض أن يتكون من ست محافظات ذات غالبية سنيّة، ليــــــــشمل محافظة كركوك المتنازع عليها مع التحالف الكوردستاني، وفق المادة الدستورية 140 .
ومحافظة ديالي ذات التوازن السكاني المتنوع بين العرب السنة والشيعة والاكراد، ليستمر جنوباً باتجاه بغداد ذات الغالبية الشعيعة.
وهل سيكون في قيام الاقاليم الكوردية والسنية والشيعية والتدخل التركي نهاية لمشاكل العراق أم البداية الحقيقية لنهاية الدولة العراقية ككيان سياسي وسيادي مستقل؟ كل المؤشرات تشير الى ان شكل النهاية سيكون ماساوياً بكل الاعتبارات المحلية والاقليمية والدولية، فحلم قيام الدولة الكوردية الكبرى لايرتبط بالعراق لوحده ولا بأكراد العراق لوحدهم، فهناك مصالح قومية لاكثر من دولة وجهة اقليمية وعالمية تتحكم بالقرار الكوردي وتنظر الى الاكراد كورقة ضغط تفاوضية مع اطراف أخرى تشاطرها مصالح المنطقة القومية والاستراتيجية، ولن يكون من مصلحة اي دولة في المنطقة وخصوصاً الدول التي تضم مكونات كوردية قيام أي دولة كوردية تسهم في اضعافها وتفتح الباب لقوى اقليمية ودولية تشاطرها حدودها السيادية كايران وتركيا وسوريا، وللأكراد تجارب مريرة في هذا المجال عبر التاريخ الحديث كما حدث ابان اعلان جمهورية مهاباد الكوردية في ايران في يناير/كانون الثاني 1946.وما تعرضت له من انتكاسة مريرة أثرت في مستقبل الاكراد لسنوات طويلة كذلك تجربتهم مع شاه ايران في منتصف السبعينيات من القرن الماضي وما حصل بعد ابرام اتقاقية الجزائر بين شاه ايران وصدام حسين 1975 حيث اصبحوا كبش فداء لتلك الاتفاقية بين البلدين، لكن يبدو ان الأكراد لم يتعلموا جيداً من دروس الماضي القريب والبعيد.
أما بالنسبة لمشروع الاقليم السني الذي يروج له بعض ساسة سنة العراق وقياداتهم الدينية، فهم ايضاً لم يتعلموا خلال هذه السنوات التي تلت الغزو الامريكي للعراق في نيسان 2003 ما هية مصالح أهل السنة الحقيقية في عراق واحد موحد يغلب عليه التعايش السلمي والمصلحة الواحدة والتاريخ المشترك مع اقرانهم من المكونات الاخرى، وإلا فإن السؤال البديهي اليوم لهؤلاء الساسة ماذا فعلتم لأبناء سنة العراق؟ وأين هم أهل السنة في العراق اليوم؟ فالساحة العراقية تكاد تخلوا اليوم من المكون السني بعد ما تعرض له سنة العراق من تهجير ونزوح وقتل وتخوين من الجماعات المسلحة التي رفعت السلاح بحجة الدفاع عن المكون السني العراقي، بينما الخاسر الاكبر من كل هذه المشاريع الاقليمية والقومية والطائفية هم السنة انفسهم، حتى تكاد معظم المحافظات والمدن العراقية السنية أن تخلوا اليوم من أهل السنة بما يقدر ب3 ملايين بين نازح ومشرد ولاجيء.
أما بالنسبة لشيعة العراق فإن تجربة الحكم التي قادوها طوال هذه السنوات فانها ستسجل كأسوء تجربة حكم عاشها العراق في تاريخه القديم والحديث والمعاصر، بما اقترفته الطبقة السياسية الشيعية من أخطاء كارثية بحق العراق والعراقيين قادت في نهاية المطاف البلاد إلى اسوء الخيارات في تقسيم البلاد ونهب ثرواته الوطنية وتخريب كل بناه التحتية وفقدان ثقة المواطن العراقي بالمؤسسة الحاكمة ومستقبل العراق، ان الحل الامثل لمشاكل العراق وبث الحياة فيه من جديد يتمثل في ايمان الجميع بالعراق الواحد الموحد بعيداً عن كل الاجندات الاقليمية والدولية والتبعية لهذا الطرف وذاك، وأن تقوم المكونات العراقية باختيار عناصر جديدة تمثلها تحت قبة البرلمان، وفي الحكومة تؤمن بحدة العراق وتحرص على مستقبله ومستقبل ابنائه وتحافظ على ثرواته وتحمي سيادته الوطنية.
مقالات اخرى للكاتب