منذ عقود طويلة دون في تأريخ العراق المعاصر العديد من المجازر المروعة التي ارتكبت بحق مختلف مكونات الشعب العراقي دون استثناء ،وكانت جميعها، لو أردنا تدوين وقائعها، تندرج تحت مسمى إبادة شعب Genocid بدءاً من مذبحة سميل التي أقامتها الحكومة العراقية عام 1933 بحق أبناء الوطن من الأقلية الآشورية في بلدة سميل و63 قرية أشورية في محافظتي دهوك ونينوى، وراح ضحيتها ما يقارب 3000 مواطن من المواطنين المسالمين. ليمتد تراث المجازر في مذابح متتالية تعرض لها الشعب الكردي في كردستان العراق توجت بمجزرة حلبجة، وقبلها كانت مذابح مدينة الموصل وكركوك عام 1959 ومجازر خان النص ثم جرائم مروعة بحق الشيوعيين والوطنيين إثر انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963 ،ثم كانت جريمة تسفير أهلنا من الكرد الفيلية واحتجاز وتغييب ما يقارب الخمسة آلاف منهم لتتوج بشاعة المذابح المجانية للشعب بحربين مجنونتين خاضهما الدكتاتور المعتوه صدام وحزبه ليختما بهما عهد حكم أمتد فيه شريط الدم من أقصى شمال العراق حتى جنوبه. ولو دونت نتائج الحربين ووضع سجل بأرقام الضحايا فيهما لفزع العالم من هول الذي وقع. ثم جاءت وقائع ما بعد الاحتلال الأمريكي لتبعد صورة تلك المجازر نحو الخلف ويحل بدل عنها مشهد روتيني من الموت الزؤام، يمارس الشعب العراقي فيه استمرارية التدجين والخوف ليعيش يومه متوجسا من سيارة مفخخة وشظية تائهة أو رصاصة باردة تتربص به عند المنعطفات والطرق. ويبقى الجميع في هذا المشهد المأزوم دائما، مشروع موت مجاني يبدو معه الدم العراقي أرخص من أن يحسب بوقائع مجازر أو أهوال. فالجميع مقتنع بالفجيعة ويتلقى الموت برحابة صدر تحسده عليه شعوب الأرض.
في إعلان بارد وبليد مثل برودة وبلادة وجوه قادة العساكر في دولة العراق منذ تأسيسها عام 1921 ولحد اليوم،قدم مسؤول الميرة أو التموين في الجيش العراقي أمام البرلمان العراقي أرقامه عن عدد المتسربين من الجيش مشيرا لرقم مفزع حدده بما يقارب 40 ألفا، ومن ثم عرج على عدد القتلى ليقدم لنا صورة باردة عن محرقة ابتلعت 11 ألف عسكري لا تعلم وزارة الدفاع وقائدها العام أين تقع مقابرهم الجماعية أو أين اختفت جثثهم. واكتفى بالقول، على الأرض السلام والرحمة الواسعة لهم، والنصر ببقاء رأس العشيرة سالما، مثلما جرت العادة واستمرارا لسياقات البنية النفسية لمنظومة القيادة للمؤسسة العسكرية على عهد القائد المخبول صدام حسين في جميع حروبه.
بعد أن قدم وزير الدفاع بالنيابة جنجلوتيته عن الإخلاص للوطن والتضحية التي قدمها ويقدمها قادة العسكر من أجل العراق وسلامة جنودهم، ثم وضع جميع من خرج من القاعدة في خانة المتسربين، وادعى بأنه بالذات قد تعرض أثناء صولاته العسكرية للإصابة بجروح ولثلاث مرات. وجاءت ردود قادة العسكر مثلما وزيرهم مموهة مخاتله متفق عليها سلفا، واحدة تكمل سيناريو الأخر، لتنتصر للسيوف والنجوم والنياشين الموضوعة فوق أكتافهم وتعطي الانطباع عن معركة بين الجنود وحرس القاعدة بعد محاولة منعهم من الخروج. وكانت دلالة السيد الفريجي في هذه المعركة الملابس التي خلعها الجنود أثناء هروبهم غير المنظم .
تبادل البرلمانيون الهمس واللمز والصراخ وطالبوا بكشف حقيقة ما حدث في قاعدة سبايكر، احدهم طالب باقتناص الفرصة وجعل يوم الواقعة عطلة رسمية أو يوما وطنيا، وأخر طالب بتقديم اعتذار لذوي الضحايا، والبعض دفع لرئيس البرلمان مقترح بوضع نصب للشهداء المغدورين. واتفق أخيرا على تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، سوف تلحق قريبا بلجان التحقيق حول جرائم سابقة،من مثل جريمة جسر الأئمة ووزارة الخارجية والعدل والمالية وجرائم القتل اليومي بالمفخخات والكواتم. ولكي نتذكر حقيقة اللجان التحقيقية نتساءل عن أخر صرعة أو عيطة حققتها لجنة تقصي الحقائق عن سقوط ثاني أكبر مدينة عراقية بيد حزب البعث وداعش وأسباب الهزيمة المدوية لقيادات العسكر وعلى رأسهم عبود قنبر المالكي، وما الذي حدث مع قادة الوحدات الذين هيئوا للجريمة ونفذوها.
لولا الوجع الذي يعتصر القلوب وقوة العزم والشكيمة لدى ذوي الضحايا وتظاهراتهم المتكررة في مختلف المدن، ثم تطويقهم لبناية البرلمان واقتحامه الذي أرعب البرلمانيين أيما رعب، فأن مدة السبعون يوما لم تكن لتشفع أو تكفي لشوارب وعباءات البرلمانيين أن تهتز حسب التعبير القبيح لصدام. فالمصيبة وكالعادة يتحملها أهل الضحايا وليس سواهم، وآدم لا يتحمل وزر قتل قابيل لأخيه هابيل ولذا عافه يستحوذ على الغنيمة ويتمتع بالنصر.
لن تكون فاجعة قاعدة سبايكر الجريمة الأخيرة في مسلسل القتل الممنهج للعراقيين وسوف تذهب بعيدا وتنسى حالها حال سابقاتها، وربما اختيرت اليوم لتكون مسكناً وغطاءاً لمثيلاتها . فالرقم الحقيقي لضحايا الجريمة مازال تتنازعه فجيعة أهل الضحايا مع حسابات وزارة الدفاع، ولم يتسن للبرلمان العراقي معرفة حقيقة من تسرب ومن قتل ومن بقي في القاعدة ومن تختطفه العشائر وتساوم عليه، من حقيقة العدد الذي أعلنه بعض قادة العساكر وهو مايقارب 4500 عسكري كانوا متواجدين في القاعدة لحظة الانكسار، وثبت رقم 1700 كمعدل للضحايا، دون أن يكون هناك رقما صريحا تشير له وثائق رسمية. وإن دونت وقائع هذه الجريمة كما أتفق عليها في البرلمان فأن وقعها جاء موجع ومخيب لأهالي الضحايا ومثلهم شرفاء العراق من يقض مضاجعهم هذا الخراب والفواجع اليومية. فمثلها اختفت جرائم كبرى بين طيات أوراق التحقيق وغيبت عن الواجهة لتكون في نهاية المطاف نسيا منسيا . فهناك جريمة إبادة وتهجير المسيحيين ومثلها للشبك والتركمان الشيعة ومن ثم الفاجعة التي صبت على رأس الايزيديين وقبل كل هذه المذبحة الطائفية التي حدثت في سجن بادوش لما يقارب من 400 سجين من مجموع 567 . كل تلك الجرائم عافها البرلمانيون واركنت فوق الرفوف دون أن ترتفع الأصوات للبحث في مآلها .
ولكن الغريب في الأمر ولحد اللحظة لم يتقدم أحد من البرلمانيين ليوجه الاتهام للمسؤول الأول عن هزيمة الجيش في الموصل والمسبب في جريمة سجن بادوش أو قاعدة سبايكر، لا بل لم يناقش البرلمان السابق ولا الحالي مسوغات وجود كل هؤلاء الجنود ومثلهم السجناء في تلك المناطق الساخنة ومن هو المسؤول عن وضعهم وسط حقول الضباع .
تشير جميع الوقائع اليومية ولمدة أكثر من عامين قبل يوم 10 حزيران 2014 وهو يوم احتلال داعش لمدينة الموصل، إلى سيطرة قيادات البعثيين وجناحهم العسكري النقشبندية وحلفاءهم من داعش على أغلب مفاصل الإدارة في مؤسسات الدولة في عموم محافظة نينوى. وكانت هذه المجاميع تستحوذ على الملايين من النقود على شكل جباية أو تبرعات وهبات، مع وجود حواضن للإرهاب تعد بالآلاف في عموم المحافظة . وهناك معسكرات تدريب لقوات داعش في المناطق المحيطة بالمدينة. ولم يكن كل ذلك في وارد اهتمامات القائد العام للعسكر ولا قياداته. لذا أبقى على السجناء في سجن بادوش وأغلبهم من مناطق العراق الجنوبية والبعض منهم من رجال التيار الصدري، ووضعهم تحت التهديد اليومي والمحاولات العديدة لاختراق السجن والسيطرة عليه من قبل الإرهاب، وكأن المالكي وقياداته كانوا يتعمدون أبقاء السجناء هناك والتخلص منهم بتسليمهم لقمة سائغة للإرهاب حين قدومه. ومثل ذلك حدث لجنود قاعدة سبايكر حين تم نقلهم من قاعدة الأمام علي في الناصرية وباقي المناطق الجنوبية إلى مدينة مضطربة وقاعدة محاطة بالحواضن وأراض يسيطر عليها الإرهاب.
وبعد كل تلك الفواجع التي حدثت في نينوى وكركوك وصلاح الدين قدم قادة العسكر مقترحهم لقائد الجمع الميمون السيد المالكي بأن يكون معسكر التاجي مركزا لتجمع الجيش المهزوم أو المتسرب، واقترح أيضا أن يكون معسكر المحاويل مركزا لتجمع وتدريب المتطوعين من الحشد الشعبي. في هذين الخيارين يبدو أن القيادة تكتسب خبرة منتقاة في قتل الناس ودفعهم نحو الموت المجاني، وكأن العراق خلى من مواقع مؤمنة وأرض بعيدة عن الإرهاب وحواضنه. وأن كان المالكي يجهل العلوم العسكرية ولا يعرف الجك من البك في خطط السلامة العسكرية، فقد ترك الأمر لعسكر البعث في اختيار طبيعة إدارة المعارك وتبييض صفحة الهزائم ومن ثم تحديد مواقع مراكز لتدريب أبناء الجيش والمتطوعين وسط مناطق ساخنة تعج بالحواضن والإرهابيين. فالتاجي منطقة معروفة بمحيطها ولم يتسنى للجيش العراقي فيها ولحد اللحظة أن ينال الهدوء، ودائما ما تأتي لها مجاميع إرهابية من مناطق المشاهدة وقرى بلد والضلوعية وحتى أبو غريب وكانت ومازالت حركة الإرهاب طليقة فيها تستطيع أن تضع معسكر التاجي وطرق الوصول أليه تحت رحمتها أنا شاءت. ومثلها منطقة المحاويل وهي القريبة على مناطق شمال بابل وبالذات جرف الصخر والبحيرات واليوسفية، وتعد ومنطقة التاجي جزء من مشروع صدام حسين لتطويق بغداد. فهل يا ترى تذهب مثل هذه الخيارات نحو إعداد سيناريو جديد لمجزرة تشبه مجزرة سبايكر .
مقالات اخرى للكاتب