" .. العَم ( حمه خليل ) كان إنساناً في منتهى البساطة والبراءة .. يملك دُكاناً صغيراً لبيع المواد الغذائية . قُبِضَ عليهِ مِنْ قِبَل عناصر الأمن ، منتصف الثمانينيات ، بتُهمة بَيعه السُكَر والشاي ( للمُخربِين أو العُصاة ) . حُقِقَ معهُ ، وإكتشف المُحققون بأنهُ على نِياتهِ وطيب القلب .. لكنهم لم يُفرجوا عنه ، وبقى محجوزاً لأكثر من شهر ، في ضيافة دائرة الأمن ، يأكل ويشرب وينام ! . فكانَ يحدث ان يُؤتى بشخصٍ الى القاعة ، وهو مُصابٌ بكدمات على وجههِ من جراء ( التحقيق ) .. فيسألهُ العم حمه خليل : ما هي تُهمتك يا بُنَي ؟ فيُجيب بأنهُ كان سكراناً ولعنَ حزب البعث . وفي يومٍ آخر .. اُدخلَ شخصٌ وهو يَئنُ من الألم وساقه مكسورةٌ كما يبدو .. فطَيبَ خاطره وسأله عن تهمته ، فأجابَ : أنه رفض الإلتحاق بقاطع الجيش الشعبي . وهكذا . وفي أحد الأيام وقبل إخلاء سبيل العم حمه خليل بيَومَين ، جيئ بِشابٍ مُثّخَنٍ بالجراح .. لاتخلو بُقعةٌ من جسده من إصابةٍ دامية .. في حالةٍ يُرثى لها .. بين الحياة والموت . فتأثرَ العم حمه كثيراً وأشفقَ عليهِ .. وسهر الليل في رعايتهِ والإهتمام بهِ وخدمتهِ .. في صباح اليوم التالي .. سألهُ : ماذا فعلتَ ياولدي ، حتى فعلوا بك هذا ؟ قال : .. أيها العَم الطيب .. أنا سائقُ حّفارة ، أثناء عملي قطعتُ سلك التلفون أو الكهرباء الخاص بإحدى الجهات الأمنية ، من دون قصد .. واللهِ لا أعرف أصلاً ماهو ولِمَنْ يعود .. المُهم هو سلك الحكومة ! .. وها أنا كما تراني .. ولا أعتقد أنني سأنجو من هذه الجروح .
اُفرِج عن العَم حَمه خليل .. فأصبحَ يُرّدِد قولهُ الشهير لِكُل مَنْ يراهُ : [ إفعَل أي شئ .. لكن أياك أياك أن تقطع سلك الحكومة ! ] " .
العَم حمه خليل ، ما زالَ حياً يُرزَق ، ورغمَ أنهُ في أرذل العُمر .. إلا أنه ما زالَ مُحتفظاً بطيبته وبراءته وفطنتهِ الطبيعية .. ولأنه لم يَعُد يرى جيداً .. فأن بعض أصدقاءه ، يقرأون له مقالاتي على الدوام .
صباح اليوم مررتُ من أمامَ دُكانهِ المتواضع الصغير وسلمتُ عليهِ كالعادة . فأمَرَني بالجلوس وأمتثلت . فقالَ لي بالحرف : .. ما زلتُ أتذكر ما فعلوا بذلك الشاب ، قبل ثلاثين سنة .. لأنهُ قطع " سلك الحكومة " .. فأرجوك يا عزيزي .. كُنْ حذراً ولا تقطع سلك الحكومة ! .
العَم حمه خليل .. رُبما لايدرك بسبب خرفه .. بأن الزمان تَغّيَر .. وأن قُوى الأمن الآن ، هي ليستْ نفسها في زمان البعث الفاشي .. وأن القادة غير القادة .
أمْ يا ترى أنا مُتّوَهِم ؟
مقالات اخرى للكاتب