ما الذي دعا روسيا للتدخل العسكري المباشر في سورية ..؟.
لمعرفة الإجابة على هذا السؤال لابد لنا من الولوج الى الماضي القريب ،للاطلاع على طبيعة العلاقة التي تربط هاذين البلدين وحجم المصالح المشتركة بينهم .
كان الاتحاد السوفيتي السابق من أولى الدول التي اعترفت باستقلال سوريا وأقامت علاقات دبلوماسية معها في عام 1944. وتعززت العلاقات السورية السوفيتية بشكل كبير لترتقي إلى مستوى التحالف الاستراتيجي في وصول الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى سدة الحكم في 1970 وإعلانه انطلاق ما عرف بالحركة التصحيحية التي كرست حكمه في استفتاء عام 1971 .
بعد ان خسر الاتحاد السوفيتي حليفه في مصر ، اضطر الكريملين للبحث عن بدائل أخرى في الشرق الأوسط ، فكانت سورية أفضل تلك البدائل ، فتدفق السلاح إلى هذا البلد، وبالإضافة إلى الدعم العسكري ، قدمت القيادة السوفيتية دعم سياسي مشهود في المحافل الدولية ،وساهمت في بناء البنية التحتية للاقتصاد السوري ،لاسيما في فروعه الإستراتيجية كالطاقة والتعدين والري ،واعتبر البلدان التعاون بينهما متجاوب مع مصالحهما المشتركة، إلا أن ثمة خلافات كانت قائمة بين الطرفين في بعض المجالات، هذه الخلافات كانت تتعلق بطبيعة علاقة النظام السوري مع الحركات اليسارية في سورية ، والى مقدار الحرية الممنوحة للحزب الشيوعي السوري في الحركة على الأرض داخل المجتمع آنذاك ، وبدرجة الدعم الذي يمكن أن يقدمه الاتحاد السوفيتي لسورية، فالسوريون كانوا يطمحون إلى كما ونوع أكبر من الدعم ،ساهم الاتحاد السوفيتي بتقديم الدعم السياسي والعسكري لسوريا في مواجهتها لإسرائيل، تحديا للدعم الكبير التي كانت تتلقاها إسرائيل من الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية.
وفي عام1963 اقيم مركز الدعم المادي التقني للأسطول البحري السوفييتي في ميناء طرطوس السوري،وكان الاتحاد السوفييتي يورد إلى سوريا أسلحة وغيرها من السلع بكميات كبيرة ، وبعد انفراط عقده في مطلع تسعينيات القرن الماضي ، أصبحت روسيا الوريث الشرعي لهذا الكيات السياسي والعسكري الكبير ، وبالرغم من التغير الجذري الذي حصل في طبيعة النظام السياسي هناك ، وتغير النظرة الأيدلوجية لروسيا عن سلفها بما يخص تعاطيها مع الأحداث الدولية ، إلا إن الروس تشبثوا ببعض الخطوط العريضة من تركة الاتحاد السوفيتي ، ومنها علاقتهم بسورية كحليف في منطقة الشرق الأوسط ، بعد ان هيمن الإخطبوط الأمريكي على هذه المنطقة اقتصاديا ، ومن ثم عسكريا بعد غزو نظام صدام لدولة الكويت عام1990.
ونتيجة لهذه العلاقة الوثيقة فقد تراكمت مديونيتها لتصل في عام 1992 الى ثلاثة عشر مليار دولار عام 1992 ،وفي عام 2005 وقعت بين البلدين اتفاقية شطب 73 % من الديون السورية آخذا بالحسبان ان المبلغ المتبقي وقدره 2.11 مليار دولار سيتم صرفه لتنفيذ العقود الروسية،وتم ابرام هذه الاتفاقية في حزيران عام 2008.
وكنتيجة حتمية لطبيعة هذه العلاقة ومتانتها تجد أن الموقف الروسي الداعم للرئيس بشار الأسد ولسورية لم يتغير منذ اندلاع الأزمة السورية مطلع 2011 ، على الرغم من كل الضغوطات التي واجهتها ، من قبل أميركا ودول الغرب ، والتي تمثلت بمحاولة جرها وصرف نظرها إلى أزمات جانبية بعيدة عن الشرق الأوسط كافتعال الأزمة الأوكرانية ، وفرض عقوبات اقتصادية عليها ، بسبب تأيدها للانفصاليين في أوكرانيا ، حين منعت هذه الدولة الجارة التي تربطها معها مصالح اقتصادية وعسكرية تاريخية من الخروج من تحت عباءتها ، إضافة إلى تعرضها إلى كم كبير من الإغراءات الاقتصادية من بعض دول الخليج في محاولة منها لرشوتها والتأثير على قرارها السياسي الدولي فيما يخص هذه الأزمة .
للأربع سنوات الماضية لم يتعدى الدعم الروسي لسورية عن المواقف السياسية الرافضة لأي قرار أممي في مجلس الامن من شانه ان يغير المعادلة السياسية والعسكرية القائمة فيها ، والدعم اللوجستي لها في خضم حربها مع الجماعات الإرهابية المتطرفة التي تعمل على تغيير النظام السياسي القائم حاليا والتي تتلقى دعم مباشر وغير مباشر من بعض دول العربية والإقليمية والدولية .
لكن ما لذي دعا روسيا لتغيير سيتراتيجيتها في التعامل مع هذه الأزمة ..؟.
ساهمت الحرب الطويلة مع الجماعات المتطرفة إلى استنزاف قدرات الجيش السوري ، في ظل وجود تحالف دولي بقيادة امريكا ،يدعي محاربته لبعض تلك الجماعات المتواجدة على الأرض هناك ، لكن الواقع يقول ان هذا الوجود ما هو إلا وسيلة لإدامة زخم الأزمة وإطالتها ، وجعل الوضع هناك في حالة موت سريري ، لا رابح فيه سوى المصالح الأمريكية والكيان الإسرائيلي ، وبقاء هذا الوضع على ما هو عليه أثار المخاوف لدى الروس باحتمالية انهيار النظام السوري في أي لحظة وبذلك تخسر روسيا أهم وآخر معاقلها في شرق المتوسط .
إضافة الى سعي أمريكا وبعض الدول الغربية إلى استبدال الغاز الروسي الذي يعد مصدر رئيسي للطاقة في الكثير من دول أوربا الغربية ، واحد مصادر الضغط السياسي والاقتصادي لروسيا على تلك الدول ، بالغاز الخليجي وتحديدا القطري ، والذي خطط له أن يمر عبر الأراضي السورية ومن ثم إلى تركيا وفي نهاية المطاف الى الدول الأوربية ، بعد توفير ممر امن له في المنطقة الغربية من العراق بعد فدرلته اوتقسيمه ، وبأسعار اقل من الغاز الروسي ، إضافة إلى وجود استثمارات على الساحل السوري التي توليه روسيا أهميةً خاصةً بوصفه منفذا بحريًا على البحر المتوسط، وتمتلك فيه امتيازات حصرية (25 عامًا) تسمح لها بالتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية، وذلك بحسب الاتفاقية الموقعة بين البلدين في أواخر عام 2013.
هذه جزء من الأسباب التي دعت روسيا لاتخاذ موقفها الأخير والتدخل عسكريا في سورية ، والذي جاء عن قناعة راسخة بحتمية نهاية هذا الصراع لصالحها ودحر الجماعات المتطرفة المتمثلة بداعش وجبهة النصرة الفصيليين الرئيسيين على الأرض السورية بعد ان أصبحت على قناعة تامة بأنه آخر الدواء لهذه الأزمة المستعصية.
وقد ساهم هذا التدخل العسكري بفرض سياسة الأمر الواقع على كل اللاعبين الرئيسيين في الأزمة السورية ، مما دعاهم إلى تغيير مواقفهم السابقة من هذه الازمة ، وتغيير نبرة حديثهم الى حالة اقل انفعالا من السابق ، ومنهم أمريكا التي أقرت بضرورة الحل السلمي لهذه الازمة بوجود موقت للرئيس بشار الاسد في مرحلة انتقالية تبعها في هذا الموقف كل من فرنسا وألمانيا واستراليا وبريطانيا وتركيا ألد أعداء النظام السوري القائم حاليا .
لكن كيف سيستثمر العراق هذا الوجود الروسي لصالحة وهو يخوض حربا مصيرية شرسة مع عدو مشترك ..؟.
العراق ومنذ سقوط الصنم وعلاقاته الدولية في حالة تذبذب ومد وجزر ، تحكمها مصالح دول الإقليم والإرادة الأمريكية المهيمنة على القرار السياسي العراقي ،فلم يستطع أي من الحكومات التي توالت عليه منذ عام 2003 ولغاية الان ، من ترسيخ أسس وثوابت تحكم طبيعة علاقة العراق مع الدول الأخرى ، او أنها استطاعت الإفلات من الهيمنة الأمريكية على قرارها السياسي ، وهذه من الأسباب الرئيسية التي أوصلت العراق على ما هو عليه الآن من حالة نكوص وانفلات امني وتدهور اقتصادي ،ان عملية مسك العصا من المنتصف في علاقاتنا الدولية المعمول بها حاليا ، ما هي إلا سياسة فاشلة ستجعل العراق يراوح في مكانه لسنوات طويلة قادمة دون ان يحرز أي تقدم على الصعيد الأمني أو الاقتصادي .
العراق الآن بحاجة الى حليف حقيقي قادر على تحمل المسؤولية التاريخية والأخلاقية ، وان الخطوة الخجولة التي اتخذتها الحكومة مؤخرا بإنشاء مركز سيطرة مشترك مع كل من إيران وروسيا وسورية ، يجب ان تتبعه خطوات أكثر جرأة ووضوح ,ليرتقي إلى اتفاقيات عسكرية ودفاع مشترك.
ان العباءة الأمريكية عباءة داكنة معتمة لا فائدة ترجى منها وعملية البقاء تحتها بحجة وجود اتفاقات وتفاهمات سيتراتيجية لن تجلب الخير للعراق، بل ستزيده سوء على ما هو عليه الآن ، وما يحدث في سورية الآن هو تجلي واضح لمعنى الحليف الحقيقي ، وعلى حكومتنا أن تعي الدرس جيدا وان لا تفوت هذه الفرصة التاريخية المتاحة لها في إنقاذ العراق من براثن الإرهاب .
مقالات اخرى للكاتب