متشابهون نحن في تشريحنا الجسمانيّ. رأسٌ وعينان وأنفٌ وفمٌ وعنق، جذعٌ وذرعان وخصرٌ وساقان وقدمان. لكننا رغم هذا لا تشبه عينان عينين، ولا أنفٌ أنفًا، ولا جسدٌ جسدًا، إلا في أضيق الحدود. ولا تتطابق بصمتان في بَنانين، ولا نغمتا صوت في حنجرتين، حتى بين التواءم. تلك معجزة السماء التي لا ينضبُ إبداعُها لأن صانع الكون خالقٌ خلاقٌ سبحانه جلّ وعلا. ولكن معجزة الله الكبرى، ليست وحسب في تبايناتنا الشكلانية، بل في اختلافاتنا النفسية والذهنية والروحية. كذلك مختلفون نحن في دروب الحياة التي نسلك ونقاط الوصول التي تتوقف عندها مصائرنا. فلماذا نختلفُ عن بعضنا البعض كبشرٍ، كلَّ ذاك الاختلاف؟ لماذا بعضُنا ناجحٌ في حياته، وبعضنا يمشي في ركب الإخفاق والفلَس؟ لماذا بعضُنا محبوبٌ وبعضنا يفرّ منه الناس وينفرون؟ هل هي أحكامٌ قَدَريةٌ، مكتوبةٌ على جباهنا، حيث لا مهرب، أم أننا المسؤولون عن هذا، لأننا ببساطة نقف وراء الأسباب، ونحن صانعوها؟
الإجابة ببساطة: نعم! نحن مَن اخترنا أن نكون ناجحين أو فاشلين، محبوبين أو مُنفّرين، روّادًا في مقدمة الصفوف، أو مغمورين في ثنايا الظلّ. الأمرُ يعتمد على "لون" القُبّعة التي نضعها فوق رؤوسنا. وهل نضعُ قبعات فوق هاماتنا؟ نعم، دعونا نرى.
يحدّثنا "إدوارد دي بونو"، الطبيب وعالم النفس المالطي في كتابه: "ستُّ قبعات للتفكير"، حول أننا لا نتمايز عن بعضنا البعض في تركيب عقولنا، بل في آلية عمل تلك العقول. وحدد "دي بونو" أساليبَ ستةً مختلفة للتفكير البشريّ، ينهج كلٌّ منها نهجًا مغايرًا يؤدي، بالضرورة، إلى نتائج مختلفة. وأعطى "دي بونو" لكل طريقة سمات محددة، تجمع، تقريبًا، كلَّ طرائق تفكير العقل الإنساني.
اعتبر دي بونو أن كلّ أسلوب من الأساليب الستة، هو بمثابة "قُبّعة" يرتديها المرءُ حينما يفكر في أمر ما. وإذن يكون لدينا قبّعاتٌ ستذٌ، ذات ألوان مختلفة.
القبعةُ الحمراء: تمثّل التفكير العاطفيّ. فصاحب تلك القبعة يُسقط مشاعرَه، الإيجابية أو السلبية، الحب والكراهية، على الأمر، فلا ينظر للأمور نظرةً محايدة أو موضوعية.
القبعةُ البيضاء: هي نقيضُ ما سبق. فصاحبها ينظر إلى الأمور من خلال الأرقام والحسابات والتحليل فيخرج بنتيجة محايدة لا محلّ للعاطفة فيها، ولا مكان فيها للنظرة الشخصية. يشبه الحاسوب الذي لا يعطي نتائجَ إلا من خلال المعطيات والبيانات والأرقام التي أدخلتها في برنامجه.
القبعةُ الصفراء: يتميز صاحبُها بالتفاؤل والإيجابية، حيث لا يرى إلا مزايا الأمر وأوجهه الإيجابية، غير مُنتبه، أو غير عابئ، إلى سلبياته.
القبّعة السوداء: صاحبها هو نقيضُ ما سبق. سوداويٌّ متشائم لا يرى في الشيء إلا عيوبَه ونواقصه وعوائقه التي تُحيل دون إتمامه.
القبعة الخضراء: تقفز بصاحبها إلى خانة الإبداع والتحليق. من يرتديها لا يعرف التفكير النمطيّ التقليدي. بل يكسر الصندوق وينطلق منه إلى رحب الابتكار والخيال، فيقترح زوايا جديدة للنظر، ومن ثم يبتكرُ طرائقَ جديدة للتأمل، سوف تؤدي بالضرورة إلى نتائج مبتكرة، لا تخطر على بال سواه ممن يسيرون على قضبان المنطق والمحاكاة والتقليد.
أما القبعة الزرقاء: فهي المظلّة الواسعة التي توجّه وترسم مسار كل القبعات السابقة. من يرتديها يمتلك نظرة شمولية تجعله يرى الأمور من منظور كُلّي واسع، ومنظّم كذلك. يرسم خُطّة العمل بدقّة؛ واضعًا الاستراتيجية العامة، والتكتيك التفصيلي لخطوات الأداء. يضع البرامج الزمنية ويُنصتُ إلى جميع الآراء من حوله، ليفيد منها.
ولكن دي بورنو لا يجعلنا نركن إلى اليأس من إمكانية تغيير أساليب تفكيرنا. فمن يظن أنه مجبولٌ على قبعة واحدة يرتديها مدى العمر، قد أخطأ مقصد الكتاب. فبوسع كلّ منّا أن يحوز القبعات الست مجتمعةً. يرتدي منها ما يشاء، ويطرح ما يشاء. المهم هو ترتيب وضع القبعات. فمن الأفضل استخدام القبعة البيضاء في بداية تحليل الأمر، ثم الصفراء والسوداء لتأمل المزايا والعيوب، ثم الانطلاق نحو القبعة الخضراء للقبض على جوهرة الابتكار، ثم الختام بالقبّعة الزرقاء، التي تعيد ترتيب الأوراق. شكرًا لله على معجزة عظمى؛ اسمها: العقل.
ولماذا إذن ظهرت في عنوان المقال "سبعُ قبعات" بينما لم يمنحنا "دي بورنو" إلا قبعاتٍ ستًّا فقط؟ لأنني أؤمن أن عبقرية السماء غير قابلة لأن تُحدَّ بفكر بشري، مهما تفرّد وعلا. إيماني بلامحدودية إبداع الله، يجعلني أؤمن بأن كلّ قارئ قرأ كتاب القبعات، وكل قارئ يقرأ مقالي الآن سوف يهمس بينه وبين نفسه: أنا أمتلك قبعة سابعة ثم يصفها لنا، حتى نكتشف في الأخير أننا بصدد عدد لا نهائي من القبعات، لعدد لا نهائي من التنوّع البشري المدهش الذي منحته السماءُ للغز مُحيّر اسمه: “الأرض”.
مقالات اخرى للكاتب