وأنا أكتب عن تلك القرية الصغيرة (العلاقمة)، أعلم أن كلامي ينطبق على العديد والعديد من قرى مصر الجميلة، التي لم يسمح أهلُها بأن يضربها فيروس الطائفية القاتل، لأنهم واعون أصحاءُ القلوب أنقياءُ الروح، لم يقبلوا أن تُدنِّس قلوبَهم أدرانُ الفتن، أو يلوِّث أرواحَهم ميكروبُ البغضاء.
هي إحدى القرى التابعة لمركز "ههيا" محافظة الشرقية بمصر. ربما كل ما يردنا عنها من أخبار أنها غرقت في مياه الصرف، وأن أهلها يعانون البؤس بسبب ابتزاز أصحاب الكسّاحات الذين يوقفون العمل لرفع أسعار النقل وفرض إتاوات في ظل إهمال الحكومة عن الإشراف والمتابعة، ما يتسبب في غرق بيوت القرية في مياه الصرف، وما يتبع ذلك من أمراض وأوبئة، خاصة أن سائقي الكسّاحات يلقون الصرف في بحر فاقوس، أحد فروع النيل وأهم روافد الريّ الزراعيّ بشرق الدلتا، وغير ذلك من الأخبار التعسة، التي تعاني منها معظم قرى مصر ونجوعها. لكن ذلك لا يرسم الصورة كاملة، بالنسبة لتلك القرية.
الزاوية المشرقةُ من الصورة، رسمها أحدُ القراء المسيحيين. المهندس: عادل نصحي إبراهيم إلياس، حكى لي عن طفولته الدافئة وسط أهل القرية المسلمين، وعن منزلهم الذي لم يخلُ يومًا من أفراد أسرتيْ الحاج علي والحاج عبده، الذين كانوا يتسابقون في قولهم: أنا أبوك وأولادي إخوتك، وأنا أمّك وأجدادُنا هم أجدادك. قصّ عليّ مراسم العزاء الأسطوري يوم وفاة والده حيث كان الشيخ يقرأ ربعًا من القرآن الكريم، يتلوه القسّ يُلقي عِظة من عظات السيد المسيح عليه السلام. نشأ أطفالُ القرية في مناخ أسريّ هادئ، حيث جميعُ الأمهات والآباء، مسلمات ومسلمين مسيحيات ومسيحيين، هنّ أمهاتُ الجميع وآباؤهم، دون طائفية تقتل في الطفل نبتة المحبة وتزرع في برعم القلب الغضّ أدرانَ البغضاء. وكبُر الأطفالُ وصاروا أطباء ومهندسين وتجّارًا، لكن المحبة لم تفتُر بينهم، نقلوها بدورهم لأبنائهم وأحفادهم حتى الجيل الثامن، مثل ميراث مقدّس لا يجوز التفريط فيه. يقول المهندس نُصحي إنه محظوظ لأن له عشراتِ الأمهات وعشراتِ الآباء، شأنه شأن كل أبناء تلك القرية الجميلة. لم يسمع في حياته كلمة "مسيحي ومسلم". في سرادقات العزاء، يحضر الشيخ "صلاح الشيلاوي" مقرئ البلدة، في صحبة القس أو الأسقف، لكي يُصلّيا معًا على الجثمان، فيتحول السرادقُ إلى ساحة مسجد وكنيسة. وإذا مرِض طفلٌ ذهبوا به إلى الست "أم إلياس" المشهود لها بالبركة، فيهدأ قلبُ الأم حتى يأتي الطبيب.
عمدةُ القرية الحاج "أحمد قورة"، المشهود له بالاستنارة والوعي الرفيع، هو ابن عم "د. فاروق قورة" أحد أكبر أساتذة المخ والأعصاب بمصر، كثيرًا ما يردد لأصدقائه المسيحيين: “أنا لو هاسيب العمادة، لن أتركها إلا لأحدكم.” وهو يعلم أن هذا لا يجوز، للأسف، ولكنه لونٌ من التوقير والتبجيل لرموز القرية المسيحيين. أخبرني المهندس نصحي الذي يقطن مدينة الزقازيق، أنه في أوقات غياب الانضباط الأمني التي مرّت بمصر أثناء الثورة، كان يلجأ إلى تلك القرية ليحتمي بها مع أسرته بين أبناء القرية المسلمين، عائلته الكبيرة.
لماذا أكتبُ عن تلك القرية؟ لأنني أريد أن أشدّ على يدي قائلة: ها هو ما تحلُمين به، واقعٌ وحادثٌ في وطنك، فقط لا يعرفه الناسُ لأن الأخبار التعسة هي الأعلى صوتًا، بينما الجمالُ دائمًا هادئ النبرة لا يلتفت إليه أحد. حنجرةُ القبح والطائفية والاقتتال صاخبةٌ جهورة تثير الذعرَ والضجيج فيسمعها القاصي والداني، فيما حنجرةُ المحبة والسلام هادئة وديعة غير مشغولة بالإعلان عن نفسها. لهذا نُعلن عنها لكي يحذو الناسُ حذوَها.
هل أقترح على الحكومة المصرية أن تكافئ قرية العلاقمة، وما شابهها من قرى مصرية جميلة بأن تُحلّ فورًا مشاكلها الحيوية من صرف ومياه وكهرباء وما إلى ذلك، حتى تكون الحياةُ الكريمة، (التي هي بالأساس حقٌّ لكل مواطن مصري)، مكافأةً عادلة للمحبة التي ينهجها أهلها؟ ربما تغارُ القرى الطائفيةُ من تلك القرى الطيبة، وتنبذ الطائفية القاتلة، فيعمُّ السلامُ وتسود المحبةُ بين أبناء مصر.
مقالات اخرى للكاتب