إمّا أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب استوعب مهامه كرئيس للقوة الكبرى في العالم، أو أنّه تعلم العديد من الدروس بسرعة أبعدته عن شعارات حملته الانتخابية وخطاب التنصيب، وبدا ذلك واضحاً في التعيينات الأخيرة في الإدارة، والتي استبعدت شخصيات من المحافظين الجدد،
واعتمدت قيادات عسكرية أميركية تحظى بالاحترام، ومعها وجوه من المعروفين باعتدالهم، واحتفظت بكثيرين من فريق سلفه باراك أوباما، وإن كان في مواقع أقلّ نفوذاً، وهاهو بعد أن تخبّط في بداية عهده بمجموعة من القرارات العشوائية وتعيينات فضائحية، وجد نفسه مُجبراً على إجراء تغييرات في أفكاره حول رجال إدارته، وإبداء المرونة في تعامله مع الأجهزة الفيدرالية والكونغرس.
ابتعد ترامب عن نهج الرئيس الأسبق جورج بوش والمحافظين الجدد، وخصوصاً تجاه ملفات الشرق الأوسط، صحيح أنه يعاود التذكير بأن بلاده صرفت 6 تريليونات دولار في المنطقة منذ غزو العراق عام 2003، لكن من الممكن اعتبار أن ذلك عائد لخلفيته في إدارة الأعمال والصفقات، وتأكيده ضرورة مشاركة أميركا العبء، ما يعني أن لديه توجهاً لتحسين القيادة الأميركية في المنطقة، من خلال شراكة إقليمية في النواحي الأمنية والستراتيجية والنفقات، وهو في واقع الأمر يسعى لبناء تحالف إقليمي يشمل دول الخليج ومصر والأردن، وفي مرحلة لاحقة إسرائيل، وبما ينسجم مع الأولويات الثلاث للولايات المتحدة في المنطقة الآن، والتي ذكرها ترامب أمام الكونجرس، وهي الهزيمة النهائية لداعش وطمأنة إسرائيل من خلال التحالف معها والضغط على إيران واحتوائها.
سياسة ترامب الشرق أوسطية الجديدة تعلمت دروساً من حرب بوش في العراق، فباتت تتفادى الانزلاق في المستنقعات، كما تعلمت من عهد أوباما مخاطر انسحابه السريع من أزمات المنطقة، وإخلاء الساحة العراقية من نفوذ أميركي قوي وفاعل، والاتجاه بدلا من ذلك لإبرام الاتفاق النووي مع إيران، وكل ذلك أفضى إلى انتشار الفوضى في المنطقة التي تشهد اليوم حروباً تُدار من قبل قوى إقليمية ودولية في آن معاً، فيما يستعد الرئيس الجمهوري لاستعادة بلاده لحضورها في الشرق الأوسط، شريطة عدم الانخراط عملياً في أزماته.
كان واضحاً أن الخطاب الأخير لترامب، والذي شاهده ما يقارب 45 مليون شخص، لقي أصداءً إيجابية لدى الإعلام المؤيد والمعارض، وذلك في بادرة غير مسبوقة خلال مسيرته السياسية، التي اعتاد خلالها خوض مواجهات عنيفة مع الإعلام، فقد رأى البعض أن خطابه كان حقيقياً، وأنه قال منذ البداية إنه سيتكلم من القلب، وقد فعل ذلك، وأن هذا الخطاب هو افضل خطاب قدمه، وأن ما جاء فيه قوي وفعّال ومثير، فقد شدد على أنه يتعين على أميركا أن تضع مصلحة مواطنيها أولاً، لكي تصبح عظيمة من جديد، وأنه سيتم استبدال البنية التحتية المتداعية، ومحاربة تهريب المخدرات، وتوفير مليارات الدولارات عبر تنقيح العقود الأميركية، غير أن هذه «الهدنة» لم تدم طويلاً إذ عاودت بعض وسائل الإعلام نبش علاقات رجال الرئيس مع المسؤولين الروس إبّان حملته الانتخابية المثيرة للجدل.
كان ترامب في خطابه الأخير رئيساً مُختلفاً عن ذاك الذي قسم البلاد وأثار قلق العالم، صحيح أنه ركّز على كثير من الاهداف المعروفة، غير أنه طرحها بلغة تسترضي الكثيرين، فقد مد يده للأميركيين السود واليهود الذين ناصبهم العداء في السابق، وتحدث عن المسلمين بطريقة أكثر دفئاً، وخلا خطابه من الهجوم العنيف على الصين والدول الأجنبية الأخرى، وإذا كان ترامب يكره المؤسسة التي ناصبته العداء، فإنه أدرك حاجته إليها لتشريع الكثير من جدول أعماله، ولذلك كانت لغته تصالحية، وهي المرة الأولى التي يضع فيها جدول أعماله دون شتائم أو حدّة، ويحث الأمة الأميركية المنقسمة على التوحد خلفه، وربّما يكون لديه من الحكمة ما يدفعه للتمسك بهذا النهج، وهو إن استطاع الحفاظ على هذا الانضباط ، فسيكون ذلك أملاً يستحق التمسك به.
مقالات اخرى للكاتب