أخيرا، أصدرت المحاكم البريطانية حكمها بالسجن (10) سنوات بحق صاحب الشركة المصدرة للعراق أجهزة كشف المتفجرات المزيفة، أصدرت حكمها دون ان يطلب منها ذلك أحد، مع انه قد سبق الحكم قيام الشرطة البريطانية بتفتيش مقار ثلاث شركات في إطار حملة التحقيقات التي أجرتها في مبيعات أجهزة فاسدة ومزيفة للكشف عن المتفجرات لعدد من الدول وفي مقدمتها العراق، حيث صادرت الشرطة ــ وقتها ــ أموالا كبيرة ومئات الأجهزة مع توجيه الأسئلة لمئات الأشخاص، وواجهت تلك الشركات تهما تتعلق بالفساد مما اضطر الحكومة البريطانية الى حظر بيع تلك الأجهزة للعراق وأفغانستان خلال عام 2010، لان التجارب أثبتت إنها غير صالحة للكشف عن المتفجرات!.
المتتبع للأنباء والاخبار خلال أكثر من ثلاثة أعوام، وكذلك المتتبع لهذه الكلمات سيعلم علم اليقين ان جميع هذه التحقيقات والملاحقات والمصادرات والمتابعات والدعاوى قامت في بريطانيا بينما قعدت الحكومة العراقية رغم انها قد دفعت من أجل الأجهزة المعنية أكثر من 200 مليون دولار، حسب المصادر الموثقة، لاستخدامها للكشف عن السيارات المفخخة والعبوات الناسفة والمواد التي تدخل في صناعتها من قبل زمر الإرهاب والجريمة، ومحاولات الكشف عن الجرائم الإرهابية والتفجيرات قبل وقوعها عن طريق بركات هذه الأجهزة التي فرحنا جدا عندما تعاقدت حكومتنا عليها واشترتها من (شركات عالمية) ووضعتها في السيطرات العسكرية الثابتة والجوالة بأيدي منتسبي الأجهزة الأمنية وهم يروحون ويجيئون ويلوحون بها في حالة تشبه استعراض الأطفال بلعبة جديدة في أيام العيد!.
ان بقاء هذه الاجهزة العتيدة البليدة في خانات العمل الى اليوم هو خطأ أكبر من شرائها، واستخدامها للكشف المبكر عن المواد المتفجرة وهي تمر عبر بوابات السيطرات العسكرية ضاحكة مستهزئة على جهود منتسبي قواتنا الامنية رغم كبر هذه الجهود وعظم حجمها، فهو من كمن أخذته العزة بالإثم واستمر على خطأه، ومع ان حمل أجهزة الكشف عن المتفجرات في هذه السيطرات خلال السنوات الماضية لم يؤدِ الى تحقيق أي نتيجة ايجابية كضبط سيارة مفخخة أو اكتشاف حزام ناسف أو مسك إرهابي قبل تفجير نفسه، وهذا ما أثبتته التجارب والوقائع اليومية نتيجة عبور العشرات من السيارات المفخخة وعصابات الإرهابيين من منطقة الى أخرى وتنفيذ جرائمهم دون خوف أو خشية من تعرضهم الى الكشف والاعتقال في أي سيطرة عسكرية نتيجة استخدام الجهاز العجيب والذي لا يتحسس سوى المنظفات والأدوية والعطور حتى ان البعض قد أطلق عليه تسمية جهاز الصابون.، فأن المخاوف الجماهيرية من عدم قدرة الأجهزة على كشف المتفجرات قد أصبح من أخبار الزمن الماضي، اذ أصبحت غير خافية على أحد من المسؤولين لدرجة ان العديد من منتسبي القوات الأمنية في السيطرات قاموا بترك استخدام هذه الأجهزة والاعتماد على التفتيش اليدوي والذي لن يجدي نفعاً هو الآخر لصعوبة تحقيق نتائج ايجابية في ضوء كثرة أعداد السيارات الموجودة في شوارع العاصمة والمدن الأخرى مما يسبب حالات زحام شديد وخانق سيلقي ظلاله بالتالي على كاهل المواطن.
ان اصدار الاحكام بحق الشركة البريطانية وصاحبها من قبل محاكم لندن، لا يعفي القضاء العراقي من متابعة كافة تفاصيل القضية التي أزهقت أرواح آلاف المواطنين العراقيين، كما انه لا يعني ان تبقي الحكومة العراقية الأمر طي الكتمان دون متابعة أو تحقيق ومسك جميع الجناة ومحاسبتهم، وجميعنا نعلم دون أي مجاملة أو مماطلة ان ملف أجهزة كشف المتفجرات هو أكثر الملفات الأكبر فسادا والأكثر فضيحة والأوسع انتشارا، ليس بسبب إننا نكره الأطراف المسؤولة عن عملية الفساد في هذه الصفقة المشبوهة ونسعى الى فضحها أينما ذهبنا وكيفما حللنا، ولكن لأن الملف له علاقة جذرية وتماس مباشر بالقضية الحساسة والأولى التي تهمنا جميعنا وهي حياتنا مهما اختلفنا في مأكلنا ومشربنا وملبسنا وطريقة سيرنا، مع الريح أو عكس اتجاه الساعة، أو حتى في حال انتمائنا الى مواسم اللامبالاة والصمت الدولي المطبق، وهذا الملف قد عاد الى واجهات الإعلام من جديد لأنه بالأمس القريب وبقدرة القادر الأقدر كشفت مصادر اعلامية عن وجود نوايا حكومية لتوقيع عقود استيراد أسلحة وأجهزة كشف متفجرات متطورة وجديدة، ومجرد الكلام عن مباحثات لشراء أجهزة جديدة لكشف المتفجرات قد رفع سقف المخاوف الجماهيرية مجددا خشية إن تكون تلك الأجهزة كسابقاتها، بل ربما انها لن تتمكن حتى من كشف العطور والصابون كالتي لدينا الان، فنتحسر على ما سنضيعه من اجهزة عظيمة وأموال جسيمة !.
مقالات اخرى للكاتب