أحد القراء اعتبرنى "جاهلا" لأنه بحث عن معنى خسارة دولة القانون في انتخابات مجالس المحافظات.. القارئ كتب يقول: "أنا بحثت عن الخسارة التي صدّعت رؤوسنا بها، ووجدت أن ائتلاف المالكي فاز في معظم المحافظات "ولم ينس القارئ أن يذكّرني أنّ وزير خارجية اميركا اتصل هاتفيا برئيس الوزراء ليهنئه على هذا النصر المبين ، وهذا دليل جهلي.. مكالمة كيري التي كانت بالنسبة للقارئ كنزا ثمينا، أثبتت حسب قول القارئ "غبائي" المطبق. القارئ حاول إذاً مقاومة التفكير بما تصور أنه " حقائق ووقائع " على الأرض، رافضاً التدقيق بالنتيجة وتعامل مع الأمر وفق إعلانات التهنئة ، التي امتلأت بها صحف الأمس.. وهذا يعني أن القارئ يعتبر التهاني هي غاية المنى للمواطن ، وهي ودليل عافية العملية السياسية.. سيقول آخرون: أليست هي الحرية التي تنادون بها ، والتي تفتح الطريق أمام الجميع؟ ففي النهاية الناخب هو الذي ينتقي.
عندما استقال ماكميلان رئيس وزراء بريطانيا من منصبه جاء عامل الهاتف إلى البيت لينزع الخط الخاص.. فصرخ فيه السياسي البريطاني الذي أنقذ بلاده من إفلاس ماليّ " ماذا تفعل بهاتفي " فردّ العامل معتذرا: " يا سيدي هذا ليس هاتفك.. إنه هاتف رئيس الوزراء " في النظام الديمقراطي الحق.. مؤسسات الدولة هي المرجع، فنجد المسؤول يتحول مواطنا عاديا ما أن يغادر المنصب.. وفي نظام دولة القانون المسؤول يصر أن يأخذ الكرسي معه إلى القبر.. اليوم نجد سلطة تزدري الوطن والمواطن، فماذا تتوقع يا عزيزي صاحب الرسالة الغاضبة من الناس ، هل يستمروا في تصديق ما يسمعون من مسؤولين لا يملكون سوى ربطات عنق وضحالة خطاب؟ سيرد القارئ: إنك تفكر في مسؤولين على شاكلة تشرشل وديغول وكوان لي ، ودولة على شاكلة البرازيل، و نحن بلاد متخلفة عن الركب ، لكنني أيها السادة أفكر أيضا في أولئك المسؤولين والسياسيين الذين كانوا يملأون الحياة إخلاصا وجهدا، أفكر في رجال من أمثال أرشد العمري وفخري الفخري والدفتري والشبيبي وضياء جعفر ومحمد حديد وإبراهيم كبة ومحمد سلمان حسن.. أتذكر أناساً كانت تصدح بالفعل، لا بالخديعة.. يوم كان الناس ينتظرون ما يقول ساستهم، ويوم كان المواطن يعتبر أن حقوقه وصلت كاملة، اليوم نعيش في صف طويل من المسؤولين الذين لاعمل لهم ولا حضور.. عبء ثقيل على البلاد، فيما العباد نصفها في الظلام ونصفها في اليأس، ونصفها في القلق، وجميعها في الخوف من المجهول .. أيها القارئ العزيز لعل أسوأ ما نمر به اليوم أن المواطن لم يعد بحاجة إلى صحافة تشكك بمنجزات ساستنا، الناس يعرفون كل شيء ، وكل مواطن يملك من المعرفة حول فضائح المسؤولين أكثر بكثير مما تتسع له كل وسائل الإعلام.. ما يقوله الناس ينمّ عن يأس من أي إصلاح مادام المسؤول يعتقد انه فوق القانون وفوق المساءلة.. ودعوني أستشهد بالجنرال الروماني بومبيوس حين قال لمواطنيه يوماً "إلامَ ستسألوننا عن القانون، ونحن من نحمل السيف في وجه الأعداء؟" ولكن قبل أن يتحمس البعض ويجعل من جملة بومبيوس شعاراً لدولة القانون، لابد من تذكيرهم بأن الجنرال الروماني لم ينته نهاية سعيدة، وأن جنرالاً آخر انتصر هو يوليوس قيصر.. وكان بومبيوس صاحب مقولة إن القيصر يجب أن يكون فوق المساءلة لأنه فوق الشبهات.. وهؤلاء الذين يعيشون فوق الشبهات لم نجد أحداً منهم اليوم يستبدل إعلانات التهاني، ببرامج تقول ، ماذا سيقدم المسؤول في عصره الزاهي الجديد؟
في الوقت الذي نقرأ فيه مانشيتات الانتصار التاريخي لدولة القانون، نجد في بلاد أخرى يخرج وزير خارجيتها وليم هيغ، وهو يشعر بأن "نتائج الانتخابات المحلية في بريطانيا أشارت إلى عدم الرضا عن أداء الحكومة"، برغم أن حزبه حصل على المراكزالأولى وحقق الأغلبية في العديد من المجالس المحلية.. وأن الوقائع تؤكد ان الحكومة ساهمت في خفض العجز في الموازنة وقدمت أكثر من مليون وظيفة جديدة للمواطنين.. وأجرت تحسينات على الضمان الصحي والإعانات الاجتماعية، وبرغم كل هذا يشعر هيغ بأن"الشعب تعب من الأخبار السيئة، والكثيرون يريدون أن يسمعوا أن هناك خططاً حقيقية للنجاح وأن لا يُخدعوا وأن يكون الوفاء بالالتزامات كاملا وغير منقوص".
لو سألت أي مواطن عراقي عن شعور هيغ بالحرج ، لأن الحكومة لم تف بكل التزاماتها، فقد يموت قهرا أو يموت ضحكا، أما لو سألت أي مسؤول عراقي عن رأيه لسارع على الفور لاتهام "هيغ" بأنه ساذج، وناقص عقل ودين!
فيا عزيزي القارئ نحن اليوم نعيش حمّى الالتصاق بالكرسي من قبل مبعوثى العناية الإلهية، ولم يعد السؤال : هل نجح المسؤول أم فشل؟ إنما هل هو المنقذ، وإذا غادر الكرسي هل ستنهار البلاد؟! والفرق بين ما قاله "هيغ" وإعلانات التهنئة.. كبير.. كبير جداً ياعزيزي .
مقالات اخرى للكاتب