قال بائع الكتب العجوز وهو يبتسم: هل تصدق، أنا الرجل الذي قضى عمرة يتنقل من شوبنهور إلى طه حسين، لا أفهم بماذا "يرطن" ساستنا.. ضحك وهو يكمل حديثة: معظم المسؤولين ومعهم الحكومة لا يرون البسطاء من أمثالنا، إلا في الانتخابات.. ولهذا قررت أن لا أشارك في الانتخابات القادمة، ما الفائدة؟ فمنذ عقود والناس تبحث عن مسؤول مختلف يمنحونه أصواتهم، وهم مطمئنون إلى أنهم استثمروها في المستقبل.. قال إن رحلته مع الانتخابات بدات عام 2010 رغم أن عمرة الآن تجاوز الستين.. كان يدرك أن نظام صدام تعامل مع الانتخابات على أنها عدّاد سيارة أجرة لا يعمل إلا لصالحه.. ضحكت وتركته يكمل : في الانتخابات الاخيرة توهمت أن العداد سيكون نزيها.. وأن الناس ستحظى للمرة الأولى في حياتها بمسؤول من لحم ودم.. تستطيع أن تراه متى شاءت.. فقد مللنا من المسؤول الذي يخرج بين الحين والآخر من على شاشات الفضائيات ليذكرنا بأنه "المنقذ".. انظر إلى هذا الكتاب وأشار بيده إلى كتاب "خطابات السلطة".. اقرأ ماذا يقول فيلسوف بحجم جان لوك من أن " الحاكم هو الذي يحقق نفعاً مستقبلياً للناس " لا نريد مسؤولاً يتفقد الناس في منتصف الليالي ويترك لهم على عتبة الباب حفنة من الدنانير، وعشاء من "صاج الريف".. نريد مسؤولا يدرك جيدا أن الانتخابات القادمة ربما لن تأتي به .. هل تعرف حكاية عامل المصنع الذي أصبح رئيسا للبرازيل.. هذا الرجل ظل في الحكم حتى عام 2010،عندها شعر أهالي البرازيل بنوع من الخيبة لأن الدستور لا يسمح لـ"رئيسهم المحبوب" بالبقاء في المنصب، فقد مشى حتى اليوم الأخير من حكمة مؤمناً بالدستور رافضاً أن يغيره لصالحه فيبقى رئيسا مثلما يتمنى معظم الشعب.. أليست هذه معجزة حقيقية ؟.. فيما نحن نعيش في ظل ساسه يعتاشون على ترويض الناس وقهرهم، نعيش في ظل قبائل وطوائف .. ثم راح الرجل وبحماسة يضرب الأمثال قائلاً: هل تعرف الكاتب المسرحي فاستاف هافال ، وقبل أن أجيب بنعم اكمل حديثه : هذا الرجل عاش حياته من أجل هدف واحد أن لا يأتي بأي خطوة خاطئة تثير حفيظة الناس وتزعجهم.. وأشار إلى كتاب يضم عدداً من مسرحيات الرئيس التشيكي.. قائلا: في هذا المجلد الصغير ستجد كلمات من نوعية: " لقد آمنت طوال حياتي، بأن ما يعمل لا يمكن العودة عنه أبدا، وأن كل شيء يبقى إلى الأبد. فالوجود له ذاكرة. وبالتالي فإن حياتي الضعيفة ، كطفل برجوازي، كمساعد عامل، كجندي، كرئيس، كمتقاعد.. حياتي هذه سوف تبقى هنا إلى الأبد. شاهدا على ما حاولت ان اقدمه للناس "
والآن اجبني ماذا سيكتب مسؤولونا، لو قرروا كتابة مذكراتهم ويومياتهم.. هل سيتحدثون عن حجم الخراب الذي قطعته البلاد خلال السنوات العشر الماضية.. هل سيقدمون للناس النسب الحقيقية للفقر والأمية وعدم الاستقرار ؟ يا صديقي أليس مذهلا ومثيرا حين نقلب مذكرات بناة التجارب الحديثة.. فنجد كيف أن التحول الهائل في سنغافورة صنعه إخلاص وتفاني رجال بوزن " لي كوان" ، وأن كوريا الجنوبية تحولت من صحراء إلى بلد ينافس اليابان في عقر دارها، بفضل نزاهة مسؤوليها وحبهم لوطنهم.
تعال يا عزيزي واقرأ ما كتبه باني الهند الحديثة نهرو عن سياسيي الإثارة والتهريج، يمد يده ليفتح كتاب " لمحات من تاريخ العالم " ليقرأ بصوت عال ": "كانت خطب القادة الفاشيين انفجارية تهديدية، يبدو اصحابها دائما في حالة تحدٍ ودعوات للنزال ".. من سيفهم أن الخطب والشعارات لا تبني بلداناً.. وأن كل مشاكل العراق لن تحل بمجرد الإيمان بأن مسؤولينا "حجاج" وضربوا ارقاماً قياسية في عدد "العمرات".
الناس تريد أن تعيش في دولة قائمة على سيادة العدالة والرفاهية الاجتماعية والقانون واستقلال القضاء والحريات العامة ، وليس على فتاوى وأمزجة البعض ممن لا يفرقون بين حقوق الناس وواجباتها. الدولة التي نتمناها تأخذ بمبدأ المواطنة بين الأفراد وتضع الدين في مكانه المقدس، دون الهبوط به إلى صراعات سياسية.
ابتسم الرجل العجوز معتذرا : اسف لقد صدعت رأسك بالخطب والشعارات، ولكن صدقني اليوم نحن بحاجة إلى مثقفين بحجم الرصافي حين وقف عام 1930 وسط مجلس النواب قائلا: " إن الحاكم لم يخلق لتكون البلاد له، بل هو نصب ليكون خادما للبلاد والعباد، ثم أن الحاكم لا يجوز له مناقضة تلك الشرائع المسنونة على أيدي نواب البلاد، إن إرادة الحاكم يجب إن تخضع لإرادة الأمة"
صمت قليلاً ليكمل بعد ان اجترّ الحسرات: لا نريد أن نظل على الهامش دائما.. وننتظر الفتات أو نتسوّل المنح.. نريد سياسيين ينقلوننا إلى مناطق الأمان.. فالمعجزة الحقيقية عندما يجد هذا الشعب الذي يعيش في الهامش، مكاناً له داخل دائرة عقل السلطة وقلبها.
مقالات اخرى للكاتب