عصمان السوداني، صديقي القادم من صحراء دارفور يتكلم اكثر مما يعمل، ويقرر دون ان يفعل.
فخمس سنوات مرت على وجوده في النرويج وهو مازال يقول سأتعلم اللغة النرويجية، وعندما اسأله: ها عصمان، تعلمت نرويجي لو بعدك؟ يجيب: جاري الشحن يا زول ويردفها بضحكة عريضة تكشف عن لوزتيه المحتقنتين من الثرثرة و"الصايح".
اي والله خمس سنين ونيّف انقضت وهو لا يزال يطلب وجود مترجم للحديث مع طبيبه، فإن لم يجد مترجماً استعان بيديه للتأشير على موضع الألم.
عثمان هذا او عصمان بحسب اللهجة السودانية بلغ من العمر اربعين عاماً وهو بلا هدف، فقد هاجر للنرويج وهو لا يعلم لم اختارها دون غيرها، وسجّل اسمه في مكتب العمل وهو لم يقرر بعد اي عمل يرغب في الحصول عليه.
يسكن في شقة تعمّها الفوضى ليس فيها تلفزيون ولا تلفون ولا خط انترنت، شلون عايش ما ادري!
عصّومي حريص جداً على اداء الفرائض بوقتها وصيام رمضان حسب امساكية مكة، لكنه وفي الوقت نفسه يرتاد البارات ومحلات بيع الخمور ويحضر حفلات الدگ والرگص.
قال لي مرة انه يخرج نهاية كل اسبوع ليسهر في بارٍ قريب من بيته بغية الظفر بعشيقة شقراء كما يحلم، لكنه لا يشرب في البار ولا يأكل ولا يرقص ولا يمارس ما يبيّن غايته من ولوج البار.
سألته بعد كل هذه السنين من حضوره سهرات الويك ايند: بشّر عصّومي، هل حصلت على مرادك؟ فيجيب كالعادة: جاري الشحن يا زول ! ويضحك.
"جاري الشحن يا زول" هذه الجملة طفرت من فمي ليلة البارحة وانا اتابع على احدى الفضائيات العراقية حديثاً عن تشكيل تيار مدني في العراق. هذا التيار الذي لم تتبين ملامحه بعد كل هذه السنين بات الكلام فيه غير مجدٍ.
فمنذ التغيير الحاصل قبل عقد من الزمان ونحن نحلم بتيار مدني ينتشل العراق من مستنقع الأحزاب الدينية والقومية والطائفية دون ان يتحقق, بل صار حلما مستعصياً حتى على الخروج من تصنيف الاحلام.
التيار المدني العراقي مشروع اجهضته سلطة الدين والعشيرة والطائفة وسوّفته لغة "المدنيين" العاجزة ونظرتهم المتعالية للمجتمع.
نعم فالمدنيون العراقيون كسالى مثل عصمان السوداني، يتكلمون اكثر مما يفعلون.
وهم ازدواجيون مثله ايضاً يشربون العرق ويلطمون على الحسين، يشتمون المحاصصة ويطالبون بحصتهم من موسم الحج!
بصراحة انا لا اخفي خشيتي على المدنية في العراق، بل لا ابالغ لو قلت لكم بأن حصولنا على تيار ليبرالي مدني بات امراً ميؤوساً منه، بالضبط كتعلم عصمان السوداني للغة النرويجية او حصوله على عشيقة شقراء.. جاري الشحن يا زول!
مقالات اخرى للكاتب