«لم أكن أتوقع، ولم أفكر في يوم ما أن يصل حال المجتمع الى هذا المستوى من التخلف، الذي يؤسف أن يعيش فيه أي إنسان، حيث تزهق فيه الأرواح لأبسط الأسباب ولأتفه الأشياء، فالإنسان الذي كرمه الله تعالى وأمر جميع ملائكته بأن تسجد له، يقتل بسبب شجار بين الأطفال»
و تستأنف أم يوسف كلامها بانزعاج واضح بشأن ما حدث: «في مدينة الصدر وقعت حادثة أفجعت كل من شاهد نتائجها وسمع بها وتعرف على سبب حدوثها، فمن غير المتوقع أن تشاهد جثتين لاثنين من الآباء نتيجة مشاجرة بين أطفال، ولكن هذا ما حدث لجارينا، وذلك بسبب وقاحة أبنائهم التي لم يوضع لها حد من كلا الجانبين، وكذلك نتيجة عدم اعتماد الأسلوب المناسب والمتحضر الذي ينم عن نضوجهم في تخفيف حدة الشجار بينهم، ما أدى الى تكراره بين الحين والآخر، والذي زاد الطين بلة هو الأمهات اللاتي ابتعدن عن التعاطي مع الموضوع بشكل عقلاني، وهن غير مدركات مخاطر ما يقمن به، فقد أخذن يحرضن أزواجهن على اتخاذ موقف بشأن ما يحصل، وكان لعصبية الآباء دور في تطور المشكلة، فقد أوصلهم الابتعاد عن طريق الصلح وعدم ضبط أبنائهم الى أن يتقاتلا في ما بينهما ويصبحا ضحية لسبب اعتيادي وغير ذي أهمية، وأصبحت العائلتان نتيجة لذلك بين كرِّ وفرٍ مستمر، وخسارة لا تأتي من بعدها إلا خسارة». ويعود سبب أغلب الشجارات التي تنشب بين الجيران إلى وقاحة الأطفال ونزقهم، وغالبا ما تتضخم هذه المشكلات نتيجة تدخل الكبار لفكها بطريقة غير متحضرة، وباتت شجارات الأطفال توصل الكبار الى التهلكة، فقد يقتل بسببها البعض أو يهجر من منزله أو يصبح مشردا أو مطالبا عشائريا، وهذا ما جعل هذه المشكلة تتصدر قائمة المشاكل الاجتماعية التي تسود في مجتمعنا في الوقت الحاضر وجميع المجتمعات دون استثناء.
غياب العقل
وتوضح رشا إبراهيم «باحثة اجتماعية»: ان أغلب مشاكل الجيران في الوقت الراهن ناتجة عن عدم الاحتكام الى العقل للوصول الى الحل الصحيح، فقد تتحطم العلاقة بين الجيران نتيجة مشاجرة بسيطة بين الأطفال، وهي لا تستحق أن توضع في الحسبان، كون أغلب الشجارات بين الأطفال هي لأسباب غير منطقية وتافهة ولكن البعض يضخمها لصنع مشكلة ما، ويجعل من الصعب أو المستحيل إرضاؤهم.
وتقول أم يوسف بأسف على ما حدث: «لو تم وضع حد لهذا الموضوع، والتعامل مع الشجار على أنه ممارسات أطفال، وحياة طفولة، وإصلاح ما حدث فيما بينهم، وتعليمهم بأنهم أخوة، ومعاقبتهم على تجاوزاتهم، لما وصل الوضع الى هذا الحال، لكن اندفاع الكبار، وأخذ الموضوع على أنه مشكلة عظمى، نتيجة أحقاد وكراهية دفينة، أودى بهم الى هذه الحال التي لا تسر العدو ولا الصديق».
كما تبين سرى علي - ماجستير علم النفس-: «ان الطفل بطبيعته بعيد عن الكراهية والأحقاد، وان ما يحدث من شجار بين الأطفال ينسى خلال فترة وجيزة، لكن الكبار غالبا ما يضخمون هذا الموضوع، وهذا ناتج عن طبيعة الأحقاد المتراكمة في ذاكرتهم، فإن عدم توجيه الطفل الى الطريق الصحيح هو ما يخلق الكثير من المشاكل التي تؤدي الى نهايات وخيمة، وهذا نتيجة النفسيات الضعيفة البعيدة عن المنطق».
آثار وخيمة
وتقول «شروق جعفر» وهي شابة ربة بيت ومتزوجة حديثا: «إن ما حدث لنا من جارنا قد أفقدنا كل ما نملك، فقد وقع الشيء الذي لم يكن بالحسبان، وبخطأ أبكانا دما على ما فقدناه بسببه، فكالمعتاد يلعب أخي مع ابن جارنا، وفي خطأ في لعبهم في (مسدس الصجم) ومن دون قصد دخل (الصجم) في عين ابن جارنا، وهنا بدأت المشكلة تتفاقم بين يوم وآخر، على الرغم من بذل قصارى جهدنا من أجل إرضائهم، وبشتى الطرق من دفع المال، وإرضاء الخواطر، ومعالجة ولدهم عند أحسن الأطباء، وكل هذا لم يكن نافعا معهم».
وتضيف شروق والحزن بادٍ على محياها: «ولهذا السبب فقد تعرضنا لمشاكل عديدة، فبعد كل ما فعلنا معهم، إلا أنهم أخذوا يهددوننا بحرق دارنا وتهجيرنا، حتى ان الأعراف العشائرية لم يكن لها أثر معهم، فقد أصروا على تهديدهم ونفذوا تهديدهم، وفقدنا بذلك كل ما نملك، فلم يكن لحسن جوارنا وكل ما قمنا به أثر فيهم».
ويوضح قاسم الساعدي «باحث إسلامي»: ان للجار مكانة مهمة في الشريعة الإسلامية، فقد يعد الجار من الأسس التي يبنى على أساسها المجتمع، فقد أشار النبي وآل بيته الأطهار (عليهم الصلاة والسلام) الى الاهتمام بمراعاة حقوق الجار.
فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ((ما زال جبرئيل (عليه السلام) يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه)).
ويبين بأن التدهور في العلاقة الإنسانية بين الجيران هي الناتج الفعلي للابتعاد عن منهج ووصايا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وطريق أهل بيته (عليهم السلام)، فان الالتزام في الدين هو الذي يجعل الإنسان يحدد طبيعة تعامله مع الجار. لكن هذا الابتعاد يرجع الى طبيعة الحياة العصرية وما تحمله من متغيرات على جميع الأصعدة، فقد أصبحت تنصهر هذه العلاقة في عصرنا الحالي بسبب شجار بين أطفال، توصلنا الى نتائج لا تحمد عقباها، هذا ما يجعلنا بعيدين كل البعد عن الشريعة الإسلامية وطريق محمد وآل بيته (عليهم الصلاة والسلام).
كما يضيف الساعدي: «لا بد من الالتفات الى تهذيب الكبار والصغار على حد سواء بأهمية الجار، وترسيخ مفاهيم ووصايا الرسول وآل بيته (عليهم الصلاة والسلام) التي تحث على حب واحترام الجار، واعتماد السلوك العقلاني في حل المشاكل، والتفكير في سبب المشكلة من هو منطقي ويستحق العتاب أو لا يستحق، وهذا ما يؤدي الى أن تنصهر وتتوارى هذه المشاكل، ويحل محلها الوئام والاحترام والتواصل في ما بينهما.
الابتعاد هو الحل
يقول حسين عباس - وهو صاحب معرض للسيارات وله أربعة أولاد ويسكن في منطقة حي أور، الذي سئم من مشاكل جارته-: «لا تكاد المشكلات تنتهي مع جارتنا، التي أتعبنا التفكير في الأسلوب الذي تتعامل به في حل المشاكل، فهي لم تضع حدا واحتراما لقيمة الجار، فلأبسط شجار بين الأطفال تأتي وتقتحم بيتنا وتأخذ تشتم وتضرب أبنائي أمام عيني ورغم هذا ، كنت أذهب لبيتهم وأعتذر منهم وأصالح الأطفال مع بعضم، وكل هذا لتجنب للمشاكل وحتى لا يتكرر هذا الموضوع، لكن هذا جعلها تتمادى في تجاوزها فقد أخذت تتحدث عن الأصول كون والدتي ليست عراقية الجنسية، فبالرغم مما مضى على سكني في المنطقة لما يقارب الـ40 عاما فلم يتحدث معي أحد من أبناء منطقتي بهذا الحديث، وهذا الأمر جعلني أفكر بشكل جدي في ترك بيتي والانتقال من المنطقة، التي أشعر بأهلها هم أقرب إليَّ حتى من أقاربي، لكن بسبب أفعال هذه الجارة اضطررت الى الانتقال. ويضيف حسين وآثار الحزن واضحة عليه: «تجرعت مرارة الابتعاد، فقد فقدت منطقتي، التي عشت فيها أجمل سني عمري وأصدقائي الذين كنت أعدهم اخوتي في سبيل الخلاص من المشاكل، ونتيجة لما حصل أخذت عهدا على نفسي بألا أجعل أبنائي يختلطون مع أبناء الجيران، رغم حديث الجيران الجدد حول عدم اختلاط أبنائي مع آبائهم ومحاولتهم للتراجع عن عهدي، لكن هذا لم يثنني عن موقفي، وذلك حفاظا على مكانتنا واحترامنا بين الناس، وألا أخسر جيراني مجددا».
كما تضيف رشا ابراهيم: «ان حل هذه المشكلة يعتمد بشكل أساسي على التعامل معها في اعتماد الطريق العقلاني في الحديث، والأسلوب اللطيف المقنع الذي لا يجرح إحساس أحد، لذا فان للكلمة الطيبة أثرا كبيرا في نفس المقابل، فهي القادرة على امتصاص كل ما بداخل الإنسان من غضب وتحويله الى أبهى أنواع التوادد والتصالح الاجتماعي».
كما توضح بأن هذا الموضوع يحتاج الى أن يكون للإعلام دور كبير في تسليط الضوء عليه من خلال البرامج وإرشاد المجتمع على احترام الجار، وذلك لما للإعلام من دور مؤثر في توجيه المجتمع الى جادة الصواب. وتوضح سرى علي - ماجستير علم النفس- «ان سلوك الطفل دائما ما يكون نابعا من المحيط الذي يعيش فيه، لذا فلا بد للأهل أن يدركوا بأن أفعالهم مرصودة من قبل أبنائهم، فهم يكتسبون قيم ومبادئ حب الجار في مرحلة الصغر منهم، وهذا ما يؤثر فيهم خلال تعاملهم مع الجيران في المستقبل، فإن ما يفعله الأهل مع الجيران سيكون محط تقليد من الأبناء.
ولهذا لا بد من أن يوضع حد سريع للأطفال عندما يخطئون مع الجيران ومعاقبتهم وتوضيح مكانة الجيران لهم، حتى لا يكون هذا الخطأ سببا في انهيار هذه العلاقة الرصينة، وحتى يكون الطفل إنسانا محبا لجيرانه في
المستقبل.
مقالات اخرى للكاتب