بدت «أم علي» حائرة ومربكة وهي تنتظر المال الذي أقرضته الى إحدى جاراتها التي تعمل معلمة في إحدى مدارس المنطقة، وكانت تقترض المال منها مرارا وتكرارا، لكنها تعيده في الوقت المحدد لذلك، وهذا ما دفع «أم علي» وجاراتها وزميلاتها المعلمات ان يثقن بها.
وتقول أم علي: «في أحد الأيام، تحدثت جارتي عن سعيها للبدء بمشروع يساعدها على تشغيل مالها، لكن ذلك يحتاج الى رأس مال كبير، وليس أمامها إلا أن تقنع شخصا باقراضها المال مقابل إشراكه في جني الأرباح، ولثقتنا بها، قمت أنا وجاراتي وعدد من المعلمات بإعطائها المال، فكان اقل مبلغ استدانته، يتراوح ما بين (5 - 7) ملايين دينار».
وتعود أغلب المشاكل الناتجة عن عدم تسديد الديون في وقتها المحدد، وتفاقهما بشكل سيئ إلى غياب الثقافة القانونية، إذ ان العلاقة الاجتماعية الوطيدة بين الدائن والمدين تحتم على الدائن عدم توثيق دينه في مستند قانوني يمكن تقديمه لاحقا للقضاء للحصول على حقه، فضلا عن أن بعض الدائنين يستخفون ببعض المبالغ التي يقرضونها لمعارفهم ويعدونها قروضا صغيرة لا تستوجب توثيقا قانونيا.
ويرى الدكتور ياسين حميد الربيعي «أاستاذ علم النفس» في كلية التربية ابن الرشد ان الظروف الصعبة هي التي تدفع الانسان الى الاقتراض، لسد حاجة ضرورية، لأن عدم تلبيتها يؤدي الى الهلاك والتشتت، وهذا ما يدفعه الى الاقتراض لأجل استمرار الحياة.
ويقول الربيعي موضحا: «الاقتراض دائما ما يكون في جانبين: الاول: يكون الدافع من الاقتراض هو محاولة لتجاوز مشاكل
ومخاطر تكاد ان تهدد حياة الفرد وأسرته، فغاية الاقتراض هنا هي تلبية حاجة ضرورية وملحة. اما الجانب الثاني: فيكون دافع الاقتراض لأجل سد النقص الذي بداخل الفرد، نتيجة الشعور بعدم اشباع الذات، ولعدم السيطرة على هذا الشعور فانه يندفع الى الاقتراض دون النظر الى أهمية الغاية المراد تحقيقها، فغاية الاقتراض هنا هي مواجهة عقدة نفسية، أو مرض نفسي».
نهاية كارثية
وتضيف أم علي بتذمر واضح: «فعلا انطلق المشروع، وأخذت تدفع لكل من استدانت منه (500) الف دينار كل شهر على انها أرباح، واستمرت على هذه الحال لمدة ثلاثة أشهر. بعدها، بدأت تتهرب من اللقاء بنا، وانقطعت عن الدفع معللة ذلك بشتى أنواع الأعذار، موضحة تراجع الأرباح، وبذلك لم تعطنا من أموالنا سوى أقل من 1 % تقريبا، ثم جاءت الكارثة الكبرى، عندما علمنا بانها باعت منزلها دون علم احد ما بين ليلة وضحاها، وبذلك تركت المنطقة وجميع من اقرضها مالا في حيرة من امرهم».
وتتساءل ام علي متعجبة: «السؤال الذي لا اجد له جوابا حتى الآن، هو، ما الذي يدفع انسانة مثقفة الى فعل مثل هذا الشيء المنكر، الذي يجعل الناس تفقد الثقة في تعاملاتها مع الآخرين؟».ويعد اقتراض المال من الوسائل القديمة المتبعة لمواجهة ضغط الحاجات الملحة للإنسان، وهو من جهة أخرى دليل على التآخي والتآزر بين أفراد المجتمع الواحد عند الشدائد والملمات، لكنها مع ذلك تتطلب الالتزام بتسديد الدين في الموعد المحدد، أو الاعتذار عن التسديد في حالة حدوث طارئ ما، وخلاف ذلك فان الثقة سرعان ما تنهار، وبذلك تنهار إحدى قيم بناء المجتمع المهمة جدا.
ويتحدث اسعد الذي يسكن في منطقة حي اور، عن صديقه مازن الذي يمتلك شركة مقاولات، بانزعاج، قائلا: «تدفعنا الثقة والاحترام والتعاون إلى اقراض المال لبعض من نعرفهم، لكن الغريب ان بعض هؤلاء لا يقدر هذا الموقف الانساني النبيل، فعلى سبيل المثال كان صديقي مازن معروفا للجميع بصدقه ونزاهته فهو رجل موثوق ومتعاون مع الجميع، وعلى الرغم من عمله مقاولا، إلا انه كان يستدين من بعض أصدقائه، في بعض الأحيان، لتيسير أموره العاجلة، وكان الخجل يبدو واضحا على وجهه عندما يطلب مالا على سبيل القرض. وكان يعتذر أكثر من مرة عندما لا يستطيع التسديد في الوقت المحدد، وكان اسلوبه المنمق، والمقنع، والحياء الذي يبدو عليه هو ما يدفعنا الى اعطائه المال في كل مرة».
ويضيف اسعد: «وذات يوم افصح مازن عن حاجته الى مبلغ كبير من المال في صفقة مقاولات، وقال بخجل ان الحاجة هي التي دفعته لهذا الطلب، وتعهد بإرجاع المال بمجرد اتمام الصفقة، مثل ما يفعل في كل مرة. ودفعتنا ثقتنا به وبقدرته على ارجاع المال إلى اعطائه ما يريد. بعدها اختفى مازن ولم يعد له وجود في كل الامكنة التي كان يرتادها، وبادر إلى إغلاق هاتفه المحمول».
ويختتم اسعد حكايته والحزن باد عليه: «راودتنا شكوك كثيرة، وبدأ الخوف ينتاب القلوب، وعصفت الاحتمالات بالافكار، وما بين الشك والثقة، ذهب بعضنا الى بيت اهل مازن للسؤال عنه، فاعلنوا عدم علمهم بمكان وجوده، وأكدوا انهم لا يعرفون اي شيء عنه، وهذا ما صدم الجميع، لدرجة ان احد اصدقائي اصيب بجلطة قلبية ونقل للمستشفى، لأن المبلغ الذي أعطاه لمازن كان كبيرا جدا، ولأنه قام باقتراضه من شخص آخر، وتحول الأمر في نهاية المطاف إلى قضية عشائرية، فاضطر أهل مازن إلى الفرار من منزلهم، وما زالوا مشردين ومطلوبين لأكثر من عشيرة نتيجة تصرفات ابنهم».
خارج التوقعات
وتقول ابتسام إن إحدى زميلاتها في العمل، كانت غالبا ما تقترض المال لسبب او من دون سبب، ومن اكثر من شخص في وقت واحد، ودائما ما تحاول سد دينها، بالاقتراض من شخص آخر. ولهذا وصل بها الحال الى ان تبحث عن عمل آخر يساعدها على سد ديونها التي بدأت تتراكم وبشكل كبير، ومع ذلك لم تمنع نفسها من الاقتراض، الى ان تجاوز المبلغ المقترض اكثر من (20) مليونا».وتضيف ابتسام: «ولهذا السبب عرضت نفسها للعديد من المشاكل في العمل، وكذلك عرضت عائلتها الى المشاكل، ما دفع زوجها الى طلاقها وتخلي أبنائها عنها. ولكن كل تلك الاجراءات لم تثنها عن طبعها السيئ، ولكثرة مضايقة زملائها بمطالبتها بإرجاع المال، قامت بنكران المال المقترض، ما دفع زملاءها الى أن يشكوها لمدير العمل الذي اصدر امرا بفصلها».
مرض نفسي
ويضيف الدكتور ياسين الربيعي: «وغالبا ما نشاهد صاحب الغاية يكون اسلوبه لطيفا وهادئا، ما يدفع المقابل الى ان يصدقه ويثق به، وهذه هي الحيلة التي يتبعها صاحب الغاية من اجل الوصول الى غايته التي فرضها عليه شعوره في النقص، وعلى الرغم من ادراكه للمخاطر الناجمة عن غايته، الا انه يصر على الاستمرار بها، وغالبا ما يعاني منها المضطربون نفسيا والذين يكون هدفهم الاول والاخير هو اشباع ذلك النقص من دون النظر الى الضرر الذي سينجم من هذا الاشباع، وهذا ما يدفع الكثير منهم الى مشاكل تكون بشكل مباشر على انفسهم وعلى عائلاتهم، وهذا ما اوصل الكثير منهم الى الهلاك والانتحار.وتقول الباحثة الاجتماعية سجى علي: «بالرغم من ان الاقتراض وسيلة مساعدة بين الافراد والمجتمع، الا انه يؤدي الى انهيار الكثير من العلاقات الاجتماعية فضلا عن الخلافات والمشاحنات بين الافراد، فقد يسلك البعض الطريق العدائي من اجل الوصول الى ماله.
وتوضح سجى «بحكم عملي في المحكمة فقد شاهدت العديد من قضايا الطلاق التي كان سببها الاقتراض، والتي تحدث بين الزوجين، أما لعدم علم الزوج باقتراض الزوجة، او لكثرة الاقتراض وعدم القدرة على سداده. وهذا ما يتعلق بالزوجة. اما من جانب الزوج الذي يسهب في الاقتراض، والذي آل فيه الحال الى الإفلاس والهروب من مكان الى آخر، نتيجة ملاحقة أصحاب المال له، وهذا ما يدفع الزوجة الى طلب الطلاق، وبالتالي أدى الى انهيار عائلة بكاملها. اضافة الى المشاكل التي تنشب بين الاقارب والمعارف نتيجة عدم الايفاء بالقرض المترتب عليهم، فيصل بهم الحال للجوء الى المحاكم للحصول على اموالهم».وتضيف أم علي: «وبالرغم من ان الدين هو إحدى وسائل التكافل الاجتماعي التي شرعها الدين الإسلامي، الا ان سوء تصرف المقترض، وحالات الاحتيال المنتشرة في الوقت الحاضر، وانعدام الثقة، دفع الكثير من الناس الى عدم الاقراض، خوفا على اموالهم من الضياع، ودخولهم في مشاكل قد تترتب على ذلك. فقد انتشرت ظاهرة كثرة الاقتراض بشكل واسع، مصحوبة في الكثير من الأحيان بحالات نصب واحتيال ما ادى الى انهيار الكثير من العلاقات الاجتماعية، وإلى ارباك مجتمعي تصعب معالجته.