لو كنّا شعبا جادا، لو كان لدينا رأي عام، يملك التأثير، لو كانت لدينا أحزاب أو منظمات مجتمع مدني، لو كان هناك من يحاسب المخطئ والفاسد.. لو كان لدينا كل ما سبق أو بعض منه، لما استطاع “جلاوزة” رئيس الوزراء الانقضاض على البنك المركزي وطرد سنان الشبيبي، الشخصية العلمية والوطنية بطريقة مهينة تفتقر إلى أبسط شروط اللياقة والاحترام.
لو كنا نحترم الكفاءات ونقدر قيمة الخبرة العلمية والمهنية لما تجرأ نائب لم يبلغ سن الرشد السياسي ليقول أن “قرار مجلس الوزراء القاضي بإقالة سنان الشبيبي خطوة بالاتجاه الصحيح” طبعا الاتجاه الصحيح عند النائب المغوار هو أن يصبح البنك المركزي فرعا من فروع مكتب رئيس الوزراء، جهل وتخلف واستهتار بكل القوانين.. المهم أن ينام، رئيس الوزراء ملء جفونه بلا وخزة “قانون” واحدة.
بيان الحكومة الثوري الذي أعلنه المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء، يصعب تصديقه في أي بلد، لكنه في العراق يقدم الدليل القاطع على إننا نعيش زمن اللصوص الكبار، وان مصطلحات الشفافية والنزاهة لا تنفع في بلد تُغيب فيه إرادة الناس.
وأنا استمع إلى بيان المستشار علي الموسوي، تصورت أن الأمر لا يعدو كونه نكتة أو محاولة لكسر الملل والرتابة، فيما الواقع يقول إن منطق استغفال الناس والضحك عليهم هو السائد في أوساط الحكومة، نعم هناك إصرار غريب على تحويل الفساد والسرقة والانتهازية إلى بطولة ونبوغ وعبقرية، قرار مضحك يجعل الوضع الذي يمر به العراق أقرب إلى كاريكاتير ممتد من أقصاه إلى أقصاه.
بيان مجلس الوزراء يريد أن يؤكد للجميع أن لا مكان للخبرة والكفاءة في هذا البلد، فعلى الشبيبي وأمثاله إذا أرادوا العيش في العراق أن يفوزوا برضا الشابندر والشلاه والعسكري والجبوري، ومن ثم يحصلون منهم على صك الوطنية، أما أن يحاول الشبيبي أن يشعل الضوء الأحمر في وجه سياسات الحكومة ومفسديها، فإنه يتحول وبقرار وزاري إلى مارق ومتربص حاقد على مكتب المالكي وفلاسفته الأفذاذ.
إذا كانت القضية هي السيطرة على كل الهيئات المستقلة، فلنتوقف عن المسرحية التي نشاهدها الآن، ونطلب من الأخوة المقربين من رئيس الوزراء أن يريحونا من كل هذه “الفوضى” ويقرروا شكل الحكم الذي يريدونه على مقاسهم الخاص وداخل أحزابهم، ثم نتبنّاه نحن المواطنين المغلوبين على أمرنا.
للأسف لو حصل الأمر في بلد غير العراق، ومع ساسة غير ساستنا الأشاوس المأزومين دوما والمصابين بمرض الخوف من كل الكفاءات، لو حصل ذلك فلا اعتقد أن حزبا أو شخصا أياً كانت مكانته السياسية يمكن أن يخوض معركة ضد رجل مثل سنان الشبيبي.. لأن المطلوب هنا هو أن يجتمع الجميع، الخصوم والمعارضة وحتى الطامعون في الحكم على أمر واحد لا لبس فيه وهو أن التعرّض لأمثال سنان الشبيبي خسارة وطنية لا تغتفر، لكن للأسف فنحن نعيش عصر سياسيي الصدفة، أصحاب المواقف المتلوّنة والملتوية.
القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء بحق الشبيبي يؤكد بالدليل القاطع أن مؤشر التفرد بالسلطة يعاود إلى الارتفاع، من خلال إغراق الناس في خطب متحذلقة، فاقدة للمعنى والثقة، خطب وقرارات تجعل المواطن يشعر بالأسى وهو يرى إصرار مسؤولي الدولة الكبار على إفراغ البلد من أصحاب الكفاءات والخبرة، وحيث يجد الشبيبي وأمثاله أنهم في مواجهة سياسيين يكرهون أوطانهم.
في الدول التي تحترم إرادة مواطنيها نجد مؤسسات الدولة تكرم علماءها ومبدعيها من خلال الحفاظ عليهم باعتبارهم عملاتٍ نادرة الوجود فيما نمارس نحن سياسة الجهل السياسي الذي يفسح المجال للمحسوبية والمزاجية في الإدارة والتي تهدم أكثر ممّا تبني.
الخاسر الأكبر من قرار إقالة الشبيبي هو الشعب العراقي الذي يحتاج في هذه الأيام العصيبة إلى كل الكفاءات الوطنية، بالمقابل فان العدو الأكبر لاستقرار البلاد هم مقربي المالكي الذين يصرون على إشاعة الفوضى والمحسوبية.
أخطر رسالة يمكن فهمها من قرار إقالة الشبيبي هي أن ائتلاف المالكي يقول لمعارضيه إننا سنلاحقكم وسنضربكم بيد من حديد إذا ما حاولتم الاختلاف معنا.
قرارات مكتب رئيس الوزراء ترسخ قناعات العراقيين بأن النتيجة الوحيدة لما حصل بعد عام 2003، هي استبدال حاكم مستبد ودكتاتور، بجماعة سياسية مستبدة، قد يصعب إزاحتها خصوصا إذا قررت أن تتصرف بمنطق “العصابات” لا بمنطق السياسة.