في فعل انتقامي فريد من نوعه لم يستغرق أكثر من ثلاثة أسابيع، قام الألمان في الحرب العالمية الثانية بتدمير مدينة روتردام بالكامل، وتسويتها بالأرض، وقد احتاج الأمر بعدها الى ربع قرن كي يتمكن الهولنديون من تشييد مدينة جديدة تعد الأكثر تطورا، وازدهارا في أوروبا.
رحلة روتردام من التدمير الى الحداثة لم تلق الاستحسان اللائق إلا بعد رهان طويل وشاق؛ ذلك لأن طبيعة أوروبا الاعتدادية تنبع من القدامة، والتاريخ، وجماليات الفن لذلك لم يكن من السهل القبول بالظلال المعدنية التي تعكسها غرائبية روتردام التي أضحت مدينة المعجزات العمرانية الحديثة.
في العادة تعاني المدن من محنة الحروب، فاعادة البناء دائما ما تواجه إشكالات عميقة بشأن الهوية، والأصالة، والقدرة على إعادة إحساس التطابق مع الماضي، وهي ايضا تحتاج الى الحظ في كثير من المواقف، فروتردام لم تكن محظوظة مثل مدينة براغ التي أمر هتلر بألا تسقط عليها قنبلة واحدة لأنه كان يراها متحفا كبيرا فائق الجمال والروعة.
لقد عانت أوروبا كثيرا من مسألة إعادة البناء، وقد تطلّب الأمر عدة عقود لإرجاع صورة المكان الى وضعها السابق؛ ذلك لأن قضية الفن هي الأساس في تكوين المدن، واذا ما نظرنا الى مأساة بغداد بهذا المقياس فإننا لا نملك سوى إزاحة الأسى من أجل التذكير بواجب النظر الى المستقبل.
لا يصح على الإطلاق ربط مدينة متآكلة الوجه، ومتهالكة البنى كبغداد بقياس زمني مقداره أربع سنوات، فنحن نحتاج الى تفكير شامل وقاطع بشأن ما على بغداد أن تظهر به، ويليق بعظمتها، ومكانتها، وهذا ما يجب تعميمه ايضا على كل المدن العراقية التي تعاني البؤس الحياتي، والبصري، ولا تملك من نفسها سوى الاسم والاعتبارات الإدارية وأورام الخيبة.
قضية بغداد لا تنحصر بانعدام النظافة والخدمات فقط وانما بأنها مدينة جرى سلخها عنوة عن تاريخها ودورها وجمالها، وعليه فإن السلطات الثلاث مطالبة بوقفة عقلية تجاه الأسس التي يجب اتباعها من أجل إعادة بناء بغداد الكبرى وإيجاد الفكرة المناسبة لخطة إظهارها تتميز بالكمال، والتفوق، وتصب في مصلحة التوازن النفسي للإنسان العراقي الذي يرى وطنه مهدما، ومتراجعا، ومتخلفا، وخارج الزمن والحياة.
بغداد تاريخ وسحر، وعلينا إيجاد الوسيلة لإظهار هذا التميز الذي يحسدنا عليه العالم، ولكنه يسقط من قلة وعينا، وضمور فطنتنا. إن الركيزة الأولى في هذا الإظهار هي الفن وتحريك الروح الكامنة في إبداع الإنسان العراقي الخلّاق، وتحفيز العقل الوطني على التفتح والابتكار، وهذه المسؤولية لا يجب أن تلقى على عاتق شخص، او مؤسسة، وانما تزج فيها كل طاقات الدولة ووفق ستراتيجية توضع بحيادية تامة، وباستقلالية لا ينالها الشك، ولا تكون رهينة التجاذب السياسي.
تحتاج بغداد الى إعادة تصميم وهذا لا بد أن يقع بمبدأ التواصل الجمعي وعلى المدى الطويل وبوحي من طاقتها السحرية والجمالية وبحشد فني يأخذ بالاعتبار كل المعايير التي تمنح الدعم الإنساني وتنمي النشاط والإرادة وتعزز الزهو. علينا أن نخطط لإعادة بناء مدننا وفق مكانة العراق وهيبته وتناغمه وإشعاعات منابعه الحضارية وان نجسم هويتنا بالحجم الذي نشغله من كتلة الحياة.
مقالات اخرى للكاتب