لم يَصل المثقف ولم تبلغ الثقافة مثل هذا البؤس فالوقت بكامله للفوضى وللنوازع البدائية ولكل من ينزع لممارسة سلطة ولكل سادي يتمتع بـإيقاع الأذى بالآخرين... وللجشع لا تملأ عينيه كل الملايين والأملاك والمنهوبات... وربما هناك من انتبه إلى تحلل اعتباراته وثوابته وقيمه وما عاد هناك ما يلزمه ويشعره بمسؤولية اجتماعية وحتى عائلية كما لو أن إشعاعات ما قد اخترقته بالخفاء وغيرت من طبيعته واخفت ثوابته وأخلاقه.. ولم تستثن المثقفين ومجتمع النخبة...
نظرة الإنسان إلى نفسه تمر عبر نظرة المجتمع إليه... أو.. لا يستطيع إلا أن يتأثر بنظرة محيطه إليه وان وثق بنفسه وعرفها وامتلأ بها.. ومثقف اليوم في عراق الطوائف والكراهية هو العنصر النشاز, والكائن الزائد والمزعج والاستفزازي للرعاع والقطعان والببغاوات والأشباح المتدفقة من قبور دارسة... وقد رأى المثقف كيانه وحضوره وتأثيره بعيون بعض من يقررون ومن وقع هو ذاته في قبضاتهم... ووجد انه وحيد في هذه الفوضى والوحشة والوحشية حتى بين المثقفين الغاطسين والمسطولين بـإنقاذ ذواتهم البايولوجية وإصلاح أجسادهم وحيواتهم.. ولم يعد العتب عليهم منطقيا ومناسبا فالوفاء لا يكفي لنجدة أنفسهم.. وهل استهين باتحاد الأدباء وبرئ (الدكتور فاضل ثامر الآن) كما اليوم؟؟؟... ثم أن الأدب والفكر والثقافة بحاجة إلى أجواء ومناخات وظروف لكي تعمل... وما الفرصة لها مع اكبر عمليات النهب ومع تدمير بلد كامل ومع بيعه بكل تاريخه وحاضره ومقدساته وبنشوة وظفر الرعاع.. فأي سذاجة وغباء أن يتطلع المرء لدور للثقافة ولحضور وتميز للمثقفين...؟؟؟؟
قيل أن السلطات قد تتملق وتشتري المثقف وتوظف صوته لخدمتها.. إلا أن عراق اليوم لا يفعلها لا من باب النزاهة والثقة بنفسها ومنجزها، بل لاستهانتها وامتعاضها من ثقافة غير ثقافتها.
قد يخامرنا إننا نقدم شهادة إلى الأجيال القادمة عن بؤس الثقافة والمثقفين، في حين لا تحتاج تلك الأجيال إلى مثل هذه الشهادة فعنوان مرحلتنا يتولى تلك الشهادة الصارخة. فهي حقبة الطائفية.. والطائفية نقيض الوعي والمعرفة والثقافة... وانها ضد نفسها، وعادة ما تقضي على نفسها بنفسها وسريعا... فمن الطبيعي أن تنفر وتمتعض من الثقافة ومن كل ود ومحبة واحترام للحياة.
لم تسقط نخبة الإبداع في البؤس فقط, بل وان وجوها اجتماعية قد وجدت, وبلا قصد, بأن الرجال ليسوا بمواقفهم بل بجيوبهم وبمقدار ما ينفعونهم... ولهذا يرى المثقفون بأن العمل الثقافي هو بمثابة إلقاء وتكديس صفائح ومسحوق الذهب إلى أبقار،، فالطائفي بهيمة بالضرورة...
ومع ذلك فان بروز الوجوه وعلو الأصوات الواعية والشخصيات القوية يبشر بقصر جولة الخراب وعلامتها الفارقة: بؤس الثقافة والمثقفين.... وإذا كان الأمل محجوبا بالرقم القياسي من جدران الكونكريت في الشوارع والمدن، وبأكبر مهرجان للشر, وإذا كان الأمل مطموسا بهيمنة البربرية والتخلف إلا أن الثقافة تبشرنا من تحت التراب والبؤس بأن المستقبل دائما للحضارة والوعي وتعميق التواصل الإنساني.. والبشارة الأخرى للثقافة انه إذا بلغت الهمجية وسطوة الرعاع ذروة قياسية في الأرض فان الفرج سيكون باهرا وعلى الأبواب.... وقد طلع وفي هذا الوقت بالذات من ابهرنا وأدهشنا بأفكاره ورؤيته وسنراها..
مقالات اخرى للكاتب