هناك نوع من الأحتقان في العلاقة بين عراقي الداخل والخارج، أحتقان تستطيع أن تتلمسه منذ سنوات طويلة وإن تراجع كثيراً في السنوات الماضية لكن لظروف معروفة لم يتوفر للطرفين
أن يكونا في مواجهة مباشرة، هذا التقابل صار ممكنا بعد سقوط النظام الصدامي عام 2003 متمثلاً بعودة الكثير من عراقيي الخارج ـ سياسيون ومثقفون ـ وتصديهم لإدارة البلاد في ظل فراغ شاسع خلفه إنهيار هرم النظام الشمولي المقلوب الذي كان يستند على حجر واحد هو رأس النظام، لاسيما وان مثقفي الداخل ظلوا مترددين لفترة ليست قصيرة في إستيعاب الواقع الجديد والتعاطي معه.
مثقف من الداخل كتب بقسوة شديدة عن عراقيي الخارج يقول ( مالذي يفعله ابناء العراق الذين يعيشون الغربة لابناء جلدتهم وهم يرنوهم يقتلون مثل النعاج، من منهم خرج في تظاهرة ؟! .. من منهم وقف في مكان عام وصرخ انقذوا بلدي ؟! من منهم دخل الامم المتحدة ورفع صوته احتجاجا على ما يجري ؟! من منهم اقام معارض فوتغرافية في الساحات العامة وقال هذا ما يفعل في وطني ؟! من منهم وجه رسائل الى قادة العالم من اجل انقاذ مال تبقى من بلاد الرافدين ؟! من منهم لايتبجح بصور الحدائق وقناني الويسكي والفاتنات ؟!) ومثقف آخر من الداخل العراقي عبر مرةً عن سخطه على زملائه الذين عادوا بعد عام 2003 ووصمهم بالسلوك المتعالي المتبجح واصفا أياهم بغاسلي الصحون وزبالي الشوارع في الغرب، وآخر أيضا كتب مستهجنا قيام بعض مثقفي الخارج بتملق سادة النظام الجديد وتمسيح أكتاف المسؤولين فيه يقول(كان بإمكان هؤلاء مع هذه القابلية الأستجدائية ان يتكيفوا مع النظام السابق ويعيشوا بهناء ورفاه دون أن يتكبدوا عناء الغربة ومشقتها) هذه الكتابات وإن كانت تعبر عن موقف شخصي لايخلو من سوء فهم أو ربما شيء من حقد أو حسد (والله أعلم)، هذه المواقف تعبر عن تجربة شخصية لهذا المثقف أو ذاك ربما مع واحد أو أثنين من مثقفي الخارج ولاتعكس بالضرورة صورة دقيقة عن مثقفي الخارج.
من جهة أخرى، مثقف عراقي هاجر في نهاية سبعينات القرن الماضي في خضم موجة هجرة اليساريين الذين غادروا البلاد بعد أنهيار مايسمى بالجبهة الوطنية وقيام النظام السابق بالتضييق على اليسار العراقي، تحدث هذا المثقف في مهرجان ثقافي عُصد خارج العراق تحدث بلغة تخوينية تعميمية غريبة، حيث وصم معظم مثقفي الداخل بالخيانة والعمالة للنظام السابق، وتسائل (أين ذهب المادحون والرادحون؟!، كيف حصل أن تحول الجميع الى ضحايا؟! فمن كان يمدح النظام ويغذي ماكنته الدعائية إذا كان الجميع ضحايا؟!) ومثقف آخر تحدث في ندوة خارج العراق عُقدت بعد مضي فترة قصيرة على سقوط نظام صدام تحدث مطالباً بإعدام كل البعثيين داخل العراق من درجة مؤيد وصولاً الى رئيس الحزب صدام ، هذه المواقف هي الأخرى تعكس مدى سوء الفهم بسبب سعة الهوة السحيقة التي فصلت مثقفي الخارج عن الداخل العراقي عبر سنوات طويلة من الحروب والحصارات والأنقطاعات.
عاش مثقفو الداخل ظروف عصيبة ولاسيما في الثمانينات والتسعينات وتعرضوا لضغوط شديدة في حياتهم ورزقهم، ولم يكن الهروب عبر السفر الى الخارج متاحاً للجميع، ثم إنه من غير المعقول والمنطقي أن يهرب الجميع الى خارج البلاد، لم يحدث مثل هذا في كل البلدان التي تعرضت لأوضاع مشابهة، كان مثقفون في الداخل يضطرون أحيانا لدفع الضرر بأقل مايمكن من الخسائر، البعض كان يضطر الى التورية والتمويه، يمجد الوطن عندما يُطلب منه أن يمدح الدكتاتور، وهناك من أفرطَ في كيل المديح أو التملق للسلطان طمعا في المال والجاه، بأختصار لايمكن أن نضع الجميع في سلة واحدة.
كما أن الهجرة بحد ذاتها لاتعد بطولة للمثقف، كثير من مثقفي الخارج أستسلم الى حياة الدعة والسلامة وإنشغل ببناء مجده الشخصي ولم يكلف نفسه عناء التصدي للدكتاتورية، ربما خوفا على ماتبقى من عائلته داخل العراق، ولكن لابد من الأشارة الى الكثيرين من مثقفي الخارج ومنظماتهم التي أسسوها في الخارج وقاموا بفضح جرائم النظام الدكتاتوري بحق الشعب العراقي وكانت لكثير من المثقفين العراقيين الكلمة الحرة الجريئة من خلال مقالاتهم ومنشوراتهم وانشطتهم الثقافية في الوقت الذي كان فيه مثقفوا الداخل بل كل عراقيي الداخل يلوذون بصمتهم وذعرهم بسبب قسوة النظام، وواصل عراقيو الخارج نشاطاتهم وتظاهراتهم في كل مدن العالم التي يقيمون بها لدعم التحول الديموقراطي في العراق الجديد وفضح ومواجهة جرائم الأبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب العراقي ولعل الجاليات العراقية ولاسيما الفئة المثقفة من أنشط الجاليات العربية في البلدان التي يقيمون بها.
مقالات اخرى للكاتب