السيد إيكهارد بروزه هو السفير التاسع لجمهورية ألمانيا الاتحادية في بغداد منذ العام 2003 حيث ظلت ألمانيا تحتفظ ببعثتها الدبلوماسية بعد سقوط النظام الدكتاتوري برغم المخاطر الأمنية دون أن تسحبها كما فعلت الكثير من الدول الأجنبية ومعظم الدول العربية، وتقع السفارة الألمانية في أحد أحياء بغداد البعيدة عن المنطقة الخضراء (المحصنة أمنياً) حيث تتواجد فيها المؤسسات العليا للحكومة العراقية. الأسباب الأمنية اضطرت السفارة الألمانية لعدم فتح أبوابها أمام الجمهور العام ولاسيما في مجال منح الـتأشيرات لزيارة ألمانيا لكنها تُسهل منح التأشيرة للوفود الحكومية والمدعوين من جهات رسمية ألمانية حكومية وغير حكومية.
السفير الألماني الجديد جاء الى بغداد في ظرف سياسي حرج للغاية حيث كانت تجري مفاوضات صعبة وملتبسة لتشكيل حكومة عراقية جديدة، وقامت ألمانيا بدور ملحوظ لتوفير الأجواء الملائمة لتشكيل هذه الحكومة عبر الاتصال مع أطراف عراقية واقليمية، وكانت ألمانيا في مقدمة الدول التي أعلنت اعترافها ودعمها لحكومة العبادي، ومنذ تقديم أوراق اعتماده في 23 تموز الماضي يحاول السيد بروزه الانفتاح على جميع الأطراف السياسية العراقية والتقى بكبار المسؤولين في الحكومة العراقية الجديدة. وفي خطوة متميزة باتجاه الانفتاح على الوسط الثقافي العراقي، أقام السفير الالماني حفل استقبال ثقافي لنخبة من المبدعين العراقيين في مجالات الثقافة والفن والإعلام، ولعل المرحلة المقبلة ستشهد تطوراً ملحوظاً للعلاقات العراقية الألمانية، ويأتي تأسيس جمعية للصداقة العراقية الألمانية برعاية السفارة الألمانية وجهات عراقية أبرزها وزارة الخارجية ليُنشئ جسراً حيوياً للتواصل والتفاعل بين الطرفين وتعميق وتوسيع العلاقات الثنائية.
ما إن انتهت الحرب وسقط نظام صدام حتى بدأنا ـ نحن العراقيين ـ نستحضر صورة ألمانيا بعد الحرب، كلا البلدين خرجا من حرب مدمرة ومن عباءة نظام قومي متوحش (قومي تعني نازي بالألمانية)، وكنا نتساءل حينها عن إمكانية توفر فرصة لإعادة إعمار العراق على شاكلة (مشروع مارشال) لإعادة إعمار ألمانيا، لكن ذلك للأسف لم يتحقق، فحتى الأموال الأميركية والأوروبية المحدودة التي خُصصت لإعادة إعمار العراق، سرقها أميركيون وأوروبيون وعراقيون دون رادع من ضمير أو قانون ولا تزال ملفات الأموال المنهوبة مفتوحة تبحث عن إجابة لمصير هذه الأموال التي كان الشعب العراقي يعلق عليها آمالاً واسعة في التنمية والنهضة بعد عقود طويلة من الحروب والحصارات المدمرة.
اليوم تعج الأسواق العراقية بمختلف البضائع الرديئة المنشأ في ظل ضعف المتابعة الحكومية لمعايير الجودة، لكن عبارة (صنع في ألمانيا) تظل هاجس كل عراقي وعراقية في البحث عن البضاعة الجيدة برغم غلاء أسعارها. العراقيون ـ رسميون وشعبيون ـ لا يزالون يتطلعون للاستفادة من التجربة الألمانية في النهضة الاقتصادية بل حتى السياسية حيث عانى البلدان من تركة ثقيلة لحزبين قوميين دمويين هما الحزب القومي الألماني وحزب البعث العراقي وما ترتب على ذلك من تشريعات وإجراءات لاجتثاث هذين الوبائين المدمرين من الحياة العامة، ولا بد هنا أن أذكر أن المركز الثقافي العراقي الألماني - ومقره مدينة بون الألمانية - الذي كان يُديرهُ كاتب المقال عقد ندوات فكرية عديدة في الأعوام 2005 و2006 و2007 للاستفادة من التجربة الألمانية في مجال إعادة بناء الدولة وإعادة الاعمار ومحاربة الفكر النازي وحل الحزب القومي الألماني (النازي) وشاركت فيها نخبة من المفكرين والسياسيين والأكاديميين والمثقفين الألمان والعراقيين، واليوم نحن من بغداد مع نخبة طيبة من الألمان والعراقيين نحاول عبر ما يسمى (الدبلوماسية الشعبية) الإشتغال بصورة مكثفة على تطوير العلاقات العراقية الألمانية والاستفادة من التجربة الألمانية في المجالات كافة بما يحقق مصلحة الطرفين ويمنح العراق فرصا واسعة للتعامل مع شركات رصينة ويجنبهُ هدر الأموال مع شركات رديئة ومتلكئة فضلاً عن المساهمة الألمانية في دعم مشاريع ثقافية وتعليمية وتدريبية.
ألمانيا برغم معارضتها الحرب على العراق سنة 2003 لأسباب لم يعد مفيداً الخوض فيها الآن، قدمت ولا تزال تقدم الدعم للعراق الجديد وحكوماته المتعاقبة وآخرها حكومة الدكتور العبادي حيث تتوفر رغبة قوية عند الألمان لدعم جهود الحكومة الجديدة لتحقيق الإصلاحات السياسية والحكومية والديمقراطية في البلاد فضلاً عن تفعيل مساهمة الشركات الألمانية في المشاريع العراقية، فقد قامت ألمانيا بإطفاء 4,6 مليار دولار من ديونها على العراق عبر نادي باريس وتبلغ نسبة الإطفاء حوالي 80 بالمئة من تلك الديون كما قدمت مساعدات بقيمة 400 مليون دولار منذ العام 2004 فضلاً عن منح فرص تدريب داخل ألمانيا لأكثر من 2500 من الكوادر العراقية في المجالات المختلفة، وأخيراً قدمت ألمانيا للحكومة المحلية لإقليم كردستان العراق مساعدات بقيمة 56 مليون دولار في إطار مساهمتها في محاربة تنظيم "داعش" الإرهابي وإغاثة النازحين في شمال العراق وكذلك تدريب قوات "البيشمركَه" لمساعدتها على محاربة "داعش"، ولا ننسى مشاركة ألمانيا في دعم عدة مشاريع ثقافية في بغداد وفي اقليم كردستان العراق من خلال معهد غوته (المعهد الثقافي الألماني) الذي أفتتح مكتباً له في أربيل وكذلك في مجال المنح الدراسية للطلبة العراقيين للدراسات العليا في الجامعات الألمانية من خلال مؤسسة التبادل الأكاديمي الألمانية.
وأخيراً يقف البلدان العراق وألمانيا اليوم على أعتاب مرحلة جديدة باتجاه تنمية العلاقات الثنائية، فكلا البلدين عاش تجربة حرب مدمرة ثم تجربة إعادة بناء، ولا شك ان العراق يمتلك الموارد لكن الفساد ينهشه ويفتقد الى بعض الخبرات، وألمانيا تمتلك الخبرات والمعدات والرصانة والدقة.
وحسب السفير الألماني الجديد ايكهارد بروزه (إن ألمانيا تريد مساعدة العراق في إيجاد البدائل عن النفط وتطوير الصناعات العراقية) وهذا يساعد العراق على الخروج من مرحلة الاقتصاد الريعي والاستهلاكي، لكن هذه الإرادة تتوقف على مسألتين جوهريتين هما الوضع الأمني والفساد المستشري.
ويقول السفير بروزه (مثلما المنتجات الألمانية جيدة ودقيقة، كذلك تعاملنا مع الجانب العراقي يجب أن يكون سليماً ودقيقاً).
لأسباب أمنية يتحدد الحضور الألماني في اقليم كردستان في الوقت الحاضر وقد كان الملتقى الاقتصادي العراقي الألماني الذي عقد في برلين قبل بضعة أشهر، دعا الى ذهاب الشركات الألمانية الى مدن جنوب العراق حيث تتمتع بقدر مقبول من الأمن كمنطلق لمساهمة أكبر وأوسع تتناسب طردياً مع تحسن الوضع الأمني الإجمالي في البلاد.
ونأمل أن يسهم تأسيس جمعية الصداقة العراقية الألمانية في فتح أفق جديد لتطوير العلاقات العراقية الألمانية.
مقالات اخرى للكاتب