جميع المجتمعات تطمح الى الرقي والتقدم من عام الى عام. المجتمع المتعاف يطمح ان يرتفع مستواه المعاشي اعلى بكثير من نسبة التضخم حتى يستطيع افراده الادخار ليوم الحاجة , تطور في الصحة العامة , توفير مستلزمات النجاح لطلاب المدارس والجامعات من حيث توفير البنايات و المختبرات , أساتذة مؤهلين , وساعات دراسية تناسب وقت الطلاب , تحسين الطرق الخارجية , توفير الامن والأمان في مناطق الأقليات , القضاء على ظاهرة الإدمان على شرب المشروبات الكحولية والمخدرات , توفير فرص العمل لكل مواطن له القدرة والرغبة على العمل , تنظيف الشوارع والعناية بجمال المدن , تدريب رجال الامن على كيفية التعامل مع المواطن , الاهتمام بالبيئة وحماية الحيوانات البرية من الصيد الجائر , العناية بمياه الأنهر و البحيرات من التلوث , وحماية صحة العمال من الصناعات التي تؤثر على الصحة العامة , ومئات بل الألاف من الحاجيات البشرية الأخرى .
الطموحات البشرية في التقدم والازدهار لا تبدا ولا تنتهي بحاجات المجتمعات الصناعية فقط وانما تشمل المجتمعات الأقل حظا , تلك المجتمعات التي انزلقت نحو الحروب الداخلية والخارجية او تلك الشعوب التي تقودها قيادات ديكتاتورية او تلك البلدان التي لا تملك الموارد الطبيعية . حاجات البشر واحدة في كل انحاء العالم و لا تتفرق وما يحتاجه المواطن الإنكليزي يحتاجه المواطن اليمني وما يحتاجه المواطن الأمريكي يحتاجه المواطن في كينيا او زائير او ساحل العاج. ولكن طالما ان الحالة الأمنية او الاقتصادية لا ترتقي الى حالة المواطن في أوربا او أمريكا من الأمان والتقدم الاقتصادي فان قائمة حاجيات المواطن في الدول الغير صناعية او الغير مستقرة امنيا وسياسيا بالضرورة تكون قصيرة ومختلفة. لنلاحظ العراق مثلا , ان حاجات المواطن العراقي لا تختلف من حاجات المواطن في أمريكا او أوربا ولكن وضع البلد الأمني والسياسي والاقتصادي بعد ان انخفضت أسعار النفط في الأسواق العالمية , فان قائمة تطلعاته بدون شك اقصر من تطلعات مواطن ينعم بالأمن والأمان ونمو اقتصادي مضطرد عام بعد عام . وهكذا فان من أولويات طموح المواطن العراقي هو الامن والأمان , توفير فرص العمل , , القضاء على الفساد الإداري والحكومي , توفير حد ادني من الرعاية الصحية والتعليمية , مكافحة التصحر , و طموحات أخرى صغيرة وكبيرة .
ولكن السؤال هو كيف تحقق المجتمعات والتي يحكمها اقتصاد السوق التقدم والازدهار الاقتصادي؟ التقدم والازدهار الاقتصادي بتحقق من خلال الاستعمال الكثيف للتكنولوجيا الحديثة وتراكم رأسمال وهمل الشرطان الاساسيان لارتفاع المستوى المعاشي للمواطن
نظام السوق يشجع على استخدام التكنلوجيا الحديثة وذلك بغية تحسين الإنتاج وعمليات الإنتاج والتغلب على المنافسين الذين يصبح انتاجهم غير مقبول او رديء مقارنة مع الإنتاج المحسن. المنتج الذي يقدم منتوج جديد ومقبول من المستهلك تكثر مبيعاته ويزداد ربحه على حساب منافسه. كما وان الإنتاج المربح هذا العام ربما يصبح غير مرغوب به في العام القادم مالم يستخدم المنتجون تكنلوجية جديدة.
التكنلوجيا المتقدمة لا تشمل فقط المكائن والمعدات وانما تشمل طرق جديدة ومتطورة في عمليات النقل , الخزن , والتوزيع والتي تؤدي بدورها تقليص كلفة الإنتاج وتقديمها للمستهلكين بأسعار تنافسية لان بيع منتوج ذو جودة عالية وبأسعار مناسبة تزداد مبيعات السلعة ويزداد الربح بينما تتراجع مبيعات المنافسين .
نظام السوق يؤدي الى انتشار التكنلوجيا الجديدة وبسرعة فائقة داخل القطاع الإنتاجي الواحد ,لان المنتج ليس له الخيار ان أراد البقاء والازدهار الا استخدام تكنلوجيا ان لم تكن اكثر حداثة من تكنلوجية منافسيه فلتكن على الأقل مساوية له , وعدم استخدام التكنلوجية المتقدمة يعني الخسارة المالية والفشل . هذا التنافس على استعمال التكنلوجية المتقدمة بين المتنافسين يسمى في لغة الاقتصاد " الفوضى الخلاقة " والتي تعني ان استخدام التكنلوجية لصناعة انتاج جديد ومقبول سوف يؤدي الى تدمير المنتج الغير كفوء والذي ما يزال يستخدم طرق بالية في الإنتاج وتكنلوجية قديمة. هذا يقودنا الى القول ان "الفوضى الخلاقة " سوف تقضي على صناعة المبردات العراقية والتي لم يتغير لونها وحجمها و مخاطرها على مستخدميها منذ خمسينيات القرن الماضي وسيحل محلها المنتوج الصيني ان لم يقوم منتجوها بأجراء تحسينات كبيرة عليها. كما وان " الفوضى الخلاقة " سوف تقضي على الأثاث المصنوع من سعف النخيل (كراسي , اسرة نوم , اقفاص طيور , اقفاص نقل الفاكهة والخضر) وسيخسر صناعها عملهم ان لم يقوموا بتطوير انتاجهم وسيستخدم المواطن الأثاث الصينيي والفيتنامي المستورد .
التكنلوجيا الحديثة (المكائن والمعدات , ابنية , سيارات نقل حديثة , مخازن , مكاتب بحوث وتطوير , وتدريب ) ليست رخيصة وتتطلب أموال ضخمة لتوفيرها وهنا يتدخل مفهوم " التصويت " وفي لغة الاقتصاد الأمريكي " تصويت الدولار " , وربما في اللغة العراقية الدارجة "الدينار يحجي" . ما معناه ان رجل الاعمال او رؤساء الشركات يستخدمون جزء من أرباحهم او مدخراتهم من أرباح السنوات القادمة على ما يحتاجونه من تكنلوجية حديثة. بكلام اخر , ليس من صفات رجل الاعمال الناجح جمع الأرباح وصرفها على شراء البيوت الضخمة والبذخ الغير مبرر على سفراتهم الصيفية , وبعدها ليجد ان مبيعاته بدأت تتراجع امام انتاج منافسيه ذو الجودة العالية او امام المنتوج الأجنبي خاصة منتوج دول شرق اسيا .
ان شراء الآلات والمكائن الحديثة وان تكن باهظة الثمن الا ان الأرباح المتوقعة من استخدامها خاصة إذا كانت هذه الآلات والمكائن تطابق الحاجة وذات كفاءة عالية في الإنتاج المرغوب في السوق. وحتى وان كانت الشركات ليس لديها الأموال النقدية الكافية لتغطية كلف الآلات والمعدات التي تحتاجها الا ان هذا لا يمنعها من الاقتراض من البنوك التجارية او اصدار السندات والأسهم. في كلا الحالتين سيكون تحت يد الشركة أموال كافية لتحديث عملياتها الإنتاجية والتسويقية.
استخدام التكنلوجيا الحديثة وتوفر المال لشراها أحد اهم الأسباب التخلف الصناعي التي تعاني منها دول افريقيا والشرق الأوسط. تخلف افريقيا الصناعي ربما هناك ما يبرره وهي الحروب الاهلية التي تدار بأيدي اجنبية , الا انه لا يوجد سبب وجيه ومعقول عن تخلف الشرق الأوسط من الركب الصناعي . لم تستطع دولة عربية اختراق أسواق أوربا او أمريكا الشمالية او الجنوبية بل لم تستطع اختراق أسواق دولة عربية. لقد بلغت استيرادات الدول العربية من البضائع الأجنبية الغير عربية تفوق 95% من مجموع استيراداتها. الدول العربية النفطية كان لديها المال (رأسمال) الكافي لشراء التكنلوجية الحديثة ولكن لظروف معروفة للجميع لم تستطع دولة عربية واحدة ان تدخل نادي الصناعة.
هناك دولة واحدة من عرب الشرق الأوسط ربما ستدخل نادي الصناعة , وهي العراق . لست مغالي ولكن هناك ظروف موضوعية حاضرة في العراق تؤهله ان يكون عضوا في هذا النادي. المواطن العراقي لديه العقل الصناعي والتجاري والحكومة لديها المال ( رأسمال) القادر على شراء التكنلوجية الحديثة وان الزواج بين الاثنين ينتج عنه عراق متقدم مزدهر وقبله للشباب الراغبين بالعمل من كل حدب وصوب .
مقالات اخرى للكاتب