المثقفون والمبدعون الذين أفرطوا في تمجيد الدكتاتور وحروبه العبثية ووحققوا مجدهم وشهرتهم في كنفها وجدوا أنفسهم أمام موقف فاصل بعد سقوطها، منهم من واصل ذات الطريق ولم يرد تغيير مساره القديم، ربما عن قناعة وإيمان أو تحت تأثير شعور العزة بالأثم، ومنهم من أعلن عن براءة أو توبه وان كانت خجولة واختار أن يكون بين صفوف الناس الذين أحبوه ومع مصلحة الوطن الذي تغنى به كثيرا.
ليس مطلوبا من المثقف والمبدع أن يقف في هذا الخندق السياسي أو ذاك ويدخل في أحتراب وتناحر سياسي او طائفي تعبيرا عن هاجس قبلي بدوي متخلف، لكن الذي تنتظره الناس من المثقف أن ينحاز اليهم .. الى الوطن، لأن مهمة المثقف التنويرية لاتتحق من خلال التعبير عن مواقف طائفية، بل في إشادة ثقافة عصرية وفي بناء صروح الثقافة التنويرية التي
تسهم في إعادة بناء الأنسان وتأهيل أفكاره بعيدا عن الأنتماءات الضيقة باتجاه دولة المواطنة ومفهوم وطن للجميع.
لسنوات عديدة وربما حتى الآن، كان الصراع بين المثقفين العراقيين والعرب حول التغيير الذي حدث في العراق عام 2003 ، هل هو تحرير أم أحتلال، ومن يقف مع الأمريكان ومن يقف ضدهم وأستهلكنا الكثير من الوقت والجهد في جدل عقيم غير مُنتج، وكان الأجدى أن يعمل المثقفون جميعا من اجل بناء مجتمع ديموقراطي وثقافة عصرية حديثة بعيدا عن أدران الدكتاتورية وأمراض الحكم الشمولي وسخافات الحزب الواحد وعسكرة المجتمع التي حكمت العراق لعقود طويلة.
منذ الأيام الأولى لسقوط الدكتاتورية في العراق عام 2003 ذهب بعض المثقفين الى إدانة وتخوين الشخصيات والأحزاب التي تصدت للعمل السياسي وما يتطلبه من التعاطي مع الأمريكان، وكان هذا الموقف اللاواقعي واللاعقلاني يجد تعبيرا عنه من خلال البهائم التي تفجر نفسها وسط الناس الأبرياء أو ربما كان يريد البعض ترك البلاد للأمريكي والتخلي عن اي دور في إعادة بناء الدولة والمجتمع، كنا ومازلنا نعتقد أذا كان ضمير المثقف صافيا فلا يضيره العمل من أجل مصلحة الوطن وليس من أجل هدف آخر حتى مع وجود المحتل.
الموقف السياسي للمثقف والمبدع مطلوب، بوصفه مواطنا وصاحب رأي ورؤية، ولكن ما ينتظر منه قبل ذلك هو الأنحياز الى الوطن .. الى الناس الذين ينتظرون منه أن يشاركهم همومهم وأحلامهم في التغيير وأن ينير الطريق أمامهم، لا أن يعلن براءته منهم ومن الوطن كما فعل شاعر مثل سعدي يوسف عندما تخلى عن ماضيه وجذوره في البصرة الفيحاء وارض الرافدين، وادعائه بأنه لا يتشرف بالجنسية العراقية والكثير من الاقاويل التي لانريد ان نعيدها هنا.
وللأسف الرؤية كانت دائما مشوشة لدى أمثال سعدي يوسف، فعندما كان معارضا لصدام وكنا نتشرف بمواقفه تلك، فوجئنا بدعوته لرئيس الوزراء البريطاني البريطاني آنذاك توني بلير الى ان يقصف العراق بطائرات حديثة عالية التدمير ، كانت تلك الدعوة مؤلمة لشعب مسالم يواجه حرب مدمرة وحشية، مؤلما أن يكون أحد رموز الثقافة العراقية محرضا على هذا القتل والدمار الذي لحق الشعب العراقي.
من حق المثقف والشاعر أن يكون له موقفا سياسيا، بل ينبغي ان يكون له ذلك بوصفه مثقفا، لكن عليه أن يُميز بين السياسي وبين الوطني أو الأنساني في النظر، فلا تصبح الدعوة الى قتل الشعب العراقي موقفا سياسيا لديه أو تجاوز الخطاب البروتوكولي في التعبير عن موقف سياسي، والأهم ذلك أن أن لايستحضر أنتماءات بدوية متخلفة عندما يريد التعبير عن مواقف سياسية عصرية.
مقالات اخرى للكاتب