بينما العرب يدخلون ربيعهم الثاني ــ ربما قسم منهم الثالث ــ في تغيير أنظمة حكم و تبديل رؤساء ، لا زال بعض العراقيين يتساءل باستغراب و بإحراج في الوقت نفسه :
ـــ متى سيبدأ ربيعنا العراقي أخيرا لتبديل هذا الطاقم الفاسد من اللصوص و المتواطئين مع الإرهاب ؟!..
وهو سؤال مشروع وواقعي تماما بقدر ما يكون مفتقرا إلى عدم الدراية و المعرفة أو الإلمام بواقع المجتمع العراقي الراهن و المأساوي ، والذي يتوسد الآن حطام نسيجه الوطني الممزق و المتناثر ، وهو يتخندق مصطفا في قواقع طائفية و أثنية متخاصمة تكاد أن تكون عدائية و مستنفرة حينا و في حالة احتراب غير معلن حينا أخر ..
مجتمع تتقاتل بعض فئاته و أطرافه فيما بينها و تخوض ضد بعضها بعضا مجازر يومية و حرب إبادة منظمة و بكل وحشية و ضراوة بهدف النيل بالسلطة أو بنية الاحتفاظ بها ..
و تُتركب ضمن هذا الإطار يوميا جرائم سادية و شنيعة ومثيرة للغثيان تأنف عن ارتكابها حتى الوحوش الضارية ..
فكيف الأمر بأبناء وطن واحد ؟!..
و الحال المؤسفة والمزرية كهذه ، فلا يمكن أن ننتظر ربيعا من مجتمع متقوّض ومحطم كهذا ، وهو ينزف وحدته الوطنية بأخر قطراته المتبقية و الأخذة بالاضمحلال ، و يكاد أن يخوض حربه الأهلية في أية لحظة كانت : فالأمر هنا لا يحتاج سوى إلى تفجير متعمد و مقصود لضريح أو مرقد ، لكي تقوم قيامة حرب أهلية شاملة و طاحنة لتبدأ مذابح و مجازر عامي 2006 و7 مجددا بل و أكثر فظاعة من ذلك ..
وهو نفس المجتمع الذي سبق أن مزقته في عقود و عهود ماضية حروب داخلية و خارجية مرارا و تكرارا ، قادها ديكتاتور أرعن و طائش ، و حيث جرت عملية تدجينه على تلقي الأوامر و تنفيذها الفوري بالقوة و العنف ، و تاليا تعويده على الاتكالية ، و ومن خلال ذلك على قتل روح المبادرات الفردية و الجماعية على حد سواء والانتظار السلبي للأمور ..
حسنا كيف ننتظر من مجتمع محطم ببنيته و أركانه و أنسجته الوطنية الجريحة ربيعا أو انتفاضة شعبية شاملة و عامة ، بعيدا عن توجسات طائفية أو عرقية وهو في حالة مزرية كهذه ؟!..
فهذه المظاهر و العوائق الاجتماعية و النفسية السلبية أخذت تتراكم بشكل لا يمكن اتخاذ الصمت أمامها ، و التصرف مثل النعامة أثناء تعرضها للمخاطر من ثم المطالبة بربيع..
فلابد من التطرق إليها بين حين و أخر و لا سيما على ضجيج الثورات العربية المتكررة ..
ولكن يبدو أن بعضا ممن يرفعون راية الدفاع عن عصمة و قدسية المجتمع لا يعجبهم تناول هذه الحقائق الدامغة أو التطرق إليها ، ولا يروق لهم ذلك قطعا ، إذ يرونها ضربا من النخوبية المتعالية و نيلا من قدسية المجتمع ؟!! ، أو ربما لكونهم يشعرون بشموليتهم بهذه الأمراض و الأوهام ، حالهم في ذلك حال بعض المرضى الذين لا يحبذون كشف أمر أمراضهم ، ويفضلونها تركها سرية و مستورة ، بينما المرض يتفاقم و يزداد يوما بعد يوم ناخرا و ناهشا و دافعا صاحبه نحو هلاك بطيء ..
و بتوضيح أكبر :
فلنتصور أنه بدون مفكري وفلاسفة و أدباء العصر التنويري الأوروبي في القرون الماضية و الذين هتكوا من خلال إبداعاتهم و كتاباتهم : هتكوا قدسية و معصومية مجتمعاتهم المحافظة والزائفة و الجاهلة آنذاك و بكل صرامة وشدة وعرّوا قيمها البالية والزائفة ، و جعلوها ترى حقيقتها المخزية في مرآة واقعها المتخلف ـــ من خلال روايات أو من على خشبة المسارح ، فهل كانت ستتطور تلك المجتمعات الأوروبية لتصل إلى درجات الرقي العالية والمتقدمة الحالية من الحداثة و العصرنة و القيم الإنسانية المتمدنة بدون تلك المساهمات الفكرية و الإبداعية من قبل أولئك الفلاسفة والمفكرين و الأدباء المصلحين و المتنورين الذين لم يخشوا لا بطشا ولا قدحا !!.