ليست المرة الاولى ولن تكون الاخيرة فالفساد اصبح المتلازمة التي تجثم على الواقع المعاشي الذي يمس الفرد العراقي باشكاله المتمرسة والمتداخلة بخيوط شائكة لايمكن تفكيكها بدعوات الاصلاح الخاوية والمشاغلة الاعلامية فقد صار الفساد ولُود والاصلاح عاقر على الرغم من تسابق الهيئات الاعلامية لكشف الصفقات التي تفوح منها رائحة العفن بالصورة والصوت والتحليل واللقاء بالمواطنين الذين يتكلمون بحرقة وفطرة وحسرة ورغم كل ما تكتبه تلك الاقلام التي تعبر بكل كلمة وحرف عن ارادة وطنية لامثيل لها لتكون تلك الاسطر مصدر الامل المتبقي الذي نرى من خلاله افقا لحقبة من الزمن علّها تقلب الموازين ليرتقي الشعب ثقافة وفكرا صعودا الى المعرفة والانتاج , نرى ان حلقات مسلسل الفساد الفارغة والمكررة اعلاميا وخطابيا لا نحتاج لكي نفهم الفكرة والمضمون الا ان نتابع الحلقة الاولى التي تضج بالاحداث المتسارعة والتصريحات المتناقضة والحلقة الاخيرة التي تعيد كل الامور الى نصابها فلا داعي اليوم الى متابعة حلقات الفساد ونحن قد أُشبعنا من تواليها بالرغم من هالة دعوات المصلحين وقيامهم بالامر بالاصلاح والمعروف والنهي عن الفساد والمنكر , فالحلقة الخاتمة هي لجنة تحقيقية تأرشف الملف لكي يدور ويدور في مكاتب النزاهة والرقابة والمساءلة وما اكثر عدديدها وضجيجها واقل سعيها ودبيبها .
طحين , رز , سكر , زيت , هذه هي مفردات الحصة التموينية التي تتفضل بها الحكومات الرشيدة المتعابقة على رقاب شعب الحضارات والشرائع بعد ان صوت لها وجعلها مؤتمنة على ثروته التي لا تعد ولا تحصى في مقابل تلك المواد الاربعة الارخص ثمنا في العالم ومع ذلك نراها تتباين في تاريخ وصولها وفي نوعيتها وفي كميتها التي اختزلها الولاة القائمون علينا بعد ان اخذوا عهداً على انفسهم في اول عهدهم بنا بزيادتها وتحسينها لتصبح منجزا تاريخيا يميز الحكومة بالعدالة والصلاح والتقوى , وما وصل الى مؤانئ البصرة من رز عفن لم يعد حدثا يثير الاستغراب والاستعجاب لحالة الاشباع الى حد التخمة التي رافقت احداث في عهدنا هذا كانت علينا اشد واقسى , فقد عبر الفساد بادواته ليكون السّمة الغالبة التي تتميز بها العملية السياسية الى ان يكون ظاهرة تشهد على العصر الذي فيه جمع الامة لفي خسر , الا الذين يكتبون بالحق وهم لعمري لقليلون , فقبل حديث الرز العفن كانت هناك صفقة الزيت منتهي الصلاحية وباخرة السكر التي اوقفت في الميناء لاسباب غير معروفة وايضا صفقة العجول النافقة مجهولة الهوية ولا زال المسلسل يحمل الكثير من القادم المفضوح فقد كُشف الغطاء عن حقبة من الدهر رضينا فيها ان يكون الفاسدون هم من يديروا امرنا ويتفضلوا علينا من بيت مال العراقيين وكل ذلك باطار الشرعية التي جعلتهم في رخاء وترف من العيش وجعلتنا في قحط وقرف منه , حتى اصبحنا في دوامة من الزمن نعلم بدايتها ولا نعلم شيئا عن خاتمتها الا الجهل والسواد المبين بينما برعت الامم في النهوض بواقعها لكي تسير بشعوبها في مسار الحضارة والمعرفة والتقدم ولازلنا نتباهى باننا خير امة اخرجت للناس لاتقدر على انتاج الشخاطة واعواد الكبريت .
والحدث الاعظم والجلل الذي يثير الغرابة اليوم هو كيف يمكن ان نتخيل كل هذا الصمت من الشعب اولا وهو الذي تقع عليه كل تلك الويلات , وممن يرجع اليهم العامة في امور الدين والصلاح وفي امور الدنيا والفلاح ومن المجتمع الدولي الذي يرى بعينه وبالدليل القاطع المحن والكوارث التي تنهال علينا , فأين دور منظمة الغذاء العالمية , وحقوق الانسان , والكثير من المؤسسات والهيئات التي ترى الواقع المزري وهي صامتة ولا تطلق تصريحا ولا استنكارا فهل بحّ صوتها كما بحّ صوت الاصلاح فينا واصبحنا مرغمين على واقع الفساد وعلينا ان نسلم اليه تسليما , اليوم لابد من توحيد الجهود لتصب في مسار واحد وتوجيه صدمة اعلامية فاعلة من خلال التحقيق والاستقصاء لا تتوقف عن فضح كل ارشيف الوهم الذي اطلقوا عليه العراق الجديد وان يكون هناك ارادة عاصفة بالوصول الى الامم المتحدة ومجلس الامن فيها لأصدار قرار بمراجعة جميع التداعيات التي رافقت العملية السياسية ووضع اليد على جميع العقود التي ابرمت والتي تبرم مع الشركات وتفعيل هيئة مشتركة مستقلة لمتابعة تلك العقود فان متلازمة الفساد قد اصبحت منظومة متكاملة تتعدى قدرات السلطة الحاكمة في العراق فقد تلبس الفساد في أسس مكنوناتها وجيناتها ولذلك لا بد من عامل خارجي ليوقف العبث المسيس بمقدرات الشعب وقوته , ويوقف عهدا صار شاهدا على ضلالا لم يشهده الذين من قبلنا وقد يسأل القادمون كيف كان عهدكم بولاتكم وعمالكم بعد عهد الطاغوت فيجيب التاريخ ليطلق مثلا مقارنا بالدليل القاطع الذي لاشك فيه ولا ريب انه ( أفسد من حبة رزّ )
مقالات اخرى للكاتب