عرفنا كل شيء تقريبا عن فقيد العالم أجمع مانديلا ، ولكن ما عدا عن عقيدته الدينية أو الطائفية ــ هذا إذا كانت عنده أصلا عقيدة من هذا القبيل ــ والتي لم يجاهر أو يتاجر بها بهدف الحصول على السلطة والامتيازات ، أو يتلفع بعباءة الدين أو المذهب ، بغية خداع الناس بقدسيات كاذبة أو باطلة وزائفة ، أو من أجل الحصول على دعمهم وتصويتهم لنيل السلطة والحكم أو البقاء في كرسيهما إلى أطول مدة ممكنة ..
نظرت مرارا إلى جبينه المشع بالنبل الإنساني فلم أجد أثرا للخشوع و العبادة !..
فما حاجته إلى ذلك إذا كان قلبه قد تحول بحد ذاته إلى محراب بحجم العالم لعبادة المحبة الإنسانية مثالا يقتدى به ..
و إذا كان العالم ــ ومثلما أسلفنا ــ لم يعرف شيئا عن عقيدة مانديلا الدينية أو المذهبية ، فأنه سرعان ما أدرك وتلمس عقيدة القيم الإنسانية الراسخة عنده ، والقائمة أساسا على روح التسامح عند القوة وهو في قمة السلطة !، وسمو الشموخ الإنساني الرابض فوق الثارات والانتقامات الصغيرة والبائسة ، ونشر بدلا عن ذلك قيم المحبة والتآلف والانسجام الاجتماعي والتنوع الحضاري والثقافي والعقائدي السلمي ، ومن ثم العيش زاهدا متزهدا في وسط بحبوحة و جنة السلطة والحكم ، بل وعدم الاهتمام لغوايتهما الفاتنة و الساحرة والمثيرة ..
وبينما كنتُ أفكر برحيل مانديلا وبروحيته السلمية وتزهده و تساميه فوق مفاتن السلطة ، خطر على بالي غاندي ذلك رسل المحبة الآخر والذي كان يتميز بنفس صفات مانديلا على صعيد رفض العنف بكل أشكاله وعظمة الروح السلمية و احتقار الامتيازات الحكم وفخفخة السلطة وأضواءها المبهرجة ..
وقد كان المصلح الأمريكي الزنجي مارتن لوثر كينغ ــ وأن كان خارج السلطة ــ يُعد من نفس الكوكبة المضيئة والطيبة نبلا وتساميا وميلا سلميا وحبا إنسانيا ..
و قد انتصرت دعوتهم بالتسامح على دعاة العنف الدموي والحقد العنصري و العداء الديني ..
فها هو مجتمعهم وشعوبهم : الجنوبي الأفريقي ــ شعب مانديلا ـــ و الهندي شعب غاندي ــ و الأمريكي ــ شعب المصلح و القس مارتن لوثر كينغ ــ فكل هذه الشعوب تعيش الآن بوئام و سلام وانسجام وبدون أية ضجة دينية أو مذهبية عصبية مهووسة أو تكفيرية حاقدة أو عدوانية أواحتراب أهلي عاصف بالدموية والوحشية، مثلماعندنا في بلدان بني يعرب !!.
فقد كانوا حقا رسل زمانهم الحقيقيين دون أن يبغوا أو يسعوا إلى ذلك قطعا !..
فكم مجتمعاتنا بحاجة إلى رسل إنسانيين كهؤلاء لشفاء القلوب و العقول الملتاثة بالأفكار التحريضية وبالقيم الباطلة والمظلمة ..
ومن أجل وقف شلالات الدماء السائلة طوال اليوم ؟!..
مقالات اخرى للكاتب