اعتمد العباسيون على الشعر كثيراً فكان بعض مهماته الدعاية لهم وضرب اعدائهم. وقد استخدموا او استغلوا في هذا الاتجاه شعراء مثل سديف بن ميمون وأبي دلامة. فعمل سديف على اثارة عواطف الناس ضد الامويين والحث على قتلهم بلا رحمة لاجتثاثهم واستئصال شأفتهم. ليس لانهم فجرة ظلمة، ولكن لكي لا يعودوا من جديد الى منافستهم. وبالفعل وبرغم اجتثاثهم القاسي استطاعوا العودة في (الاندلس)، وشكلوا خطرا على العباسيين ردحاً من الزمن. وقد دفعوا سديف بن ميمون لهذه المهمة وفي مسرحية تراجيدية جداً تقدم سديف (حسب الاتفاق) في محفل ضم بقايا الامويين الذين دعاهم الى وليمته السفاح، فقال:
أصبح الملك ثابت الأساس بالبهاليل من بني العباس
بالصدور المقدمين قديماً والرؤوس القماقم الرواس
يا أمير المطهرين من الذم ويا رأس منتهى كل راس
أنت مهدي هاشم وهداها كم أناسٍ رجوك بعد أناس
لا تقيلن عبد شمسٍ عثاراً وارمها بالمنون والاتعاس
أنزلوها بحيث أنزلها الله بدار الهــــــــــــــــــوان والإتعاس
خوفهم أظهر التودد منهم وبهم منكم كحــــز المواسي
أقصهم أيها الخليفة واحسم عنك بالسيف شأفة الأرجاس
وأذكرن مصرع الحسين وزيدٍ وقتيلٍ بجانب المهراس
والإمام الذي بحران أمسى رهن قبرٍ في غربةٍ وتناسي
فلقد ساءني وساء سوائي قربهم من نمارق وكراسي
نعم شبل الهراش مولاك شبل لو نجا من حبائل الإفلاس
قال صاحب الاغاني: "فتغير لون أبي العباس وأخذه زمع ورعدة؛ فالتفت بعض ولد سليمان بن عبد الملك إلى رجل منهم، وكان إلى جنبه، فقال: قتلنا والله العبد. ثم أقبل أبو العباس عليهم فقال: يا بني الفواعل، أرى قتلاكم من أهلي قد سلفوا وأنتم أحياءٌ تتلذذون في الدنيا! خذوهم! فأخذتهم الخراسانية بالكافركوبات، فأهمدوا".
واستغلوا أبا دلامة لكسب الرأي العام إلى جانب الأسرة الحاكمة الجديدة، وبذلك أسهم أبو دلامة في إعطاء اللغة العربية مهمة اجتماعية جديدة في العصر العباسي
ومن البيتين الآتيين نستطيع أن نأخذ فكرة عن ذلك النوع من الشعر الدعائي وعن تعظيمه لحكام الأسرة الحاكمة الجديدة:
لَو كَانَ يُقعَدُ فَوقَ الشَّمسِ مِن كَرَمٍ قَومٌ لَقِيلَ اقعُدُوا يا آلَ عَبَّاسِ
ثمَّ ارتَقُوا في شُعَاعِ الشَّمسِ كُلُّكُمُ إلى السَّماءِ فَأنتُم أكرَمُ النَّاسِ
وقَدّمُوا القَائِمَ المَنصُورَ رأسَكُمُ فَالعَينُ والأنفُ والأذنَانِ في الراسِ
وقال في ولائه لبني العباس:
دِيني على دِينِ بَنِي العَبَّاسِ
ما خُتِمَ الطِّينُ على القِرطَاسِ
إنّي اصطَبَحتُ أربعاً بالكاسِ
فَقَد أدَارَ شُربُها بِرَاسِي
فَهَل بما قُلتُ لَكُم مِن باسِ
وقد استغله العباسيون بدعايته المضادة تصفية عدوهم الشرس أبي مسلم الخراساني، لذا نسمعه يقول فيه:
أبا مجرم ما غير الله نعمـــــة على عبده حتى يغيرها العبـــــد
أبا مجرم خوفتني القتل فانتحى عليك بما خوفتني الأسد الورد
أفي دولة المنصور حاولت غدره ألا إن أهل الغدر آباؤك الكرد
إن سديفاً وأبا دلامة الشاعر ومضحّك الخليفة وملهيه وملهي الناس عنه ليس بدعاً في عصره والعصور عامة، فدائماً تستغل السياسة الفن، فإذا كبار الفنانين باختلاف أشكالهم وألوانهم يعملون لصالح أجندة معينة، مخفية وراء شكلها الشعبي المحبب وجهاً مكفهراً أنانيا يبوء وينوء بقبح عجيب. وليس يخفى او تختفي وجوه أمثال أبي دلامة في حياتنا المعاصرة.. فقد خدم عبد الحليم حافظ عبد الناصر بشغله الشباب عن النكسة، وتناسى العراقيون ايام عبد السلام الزعيم منشغلين بـ(غيدة وحمد)، كما شغل البعثيون الشعب عن مأساة حرب 1973 بالبطولات الوهمية لعدنان القيسي.. وعلينا التنبه من صعود فنان معين جراء أو وراء أزمة عاتية.. وتستمر السياسة بـ(أبودلامياتها).
احد شهود عيان الثورة العباسية، البروفسور الدكتور ديترش فيشر، مستل من مجلة كلية الاداب – جامعة بغداد، العدد (20) سنة 1976، ص34.