اقدم النظام المقبور على جريمة فضيعة لا تقل فضاعتها عن جريمة الانفال ضد المكون الكردي او ضد أبناء الانتفاضة الشعبانية التي قادها العرب الشيعة في الجنوب العراقي , وهي جريمة تجفيف الاهوار العراقية ولأسباب امنية . هذه الأهوار والتي اعتبرها المؤرخون " جنات عدن" , وملهمة الشعراء , والتي لا يخلو كتاب تاريخ او جغرافية يتحدث عن العراق الا ويذكرها , والذي التصق اسمها مع الثورات والانتفاضات العراقية , قد هتك حرمتها النظام العراقي المجرم عام 1991. ففي هذا العام امر راس النظام بتجفيفها وتم له ذلك عن طريق تحويل مياهها الى الصحراء والى الخليج وما بقى من شجر يقاسي العطش , فقد قتلته بالسموم التي كانت ترميها الطائرات . وهكذا لم يبقى في العراق اهوار الا مساحة قدرت 1900 كيلو متر مربع بعد ان كانت في بداية السبعينيات من القرن الماضي ما بين 15000 و20000 كيلو متر مربع. لقد اعلن موت الاهوار العراقية المدير العام لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة كلاوس توبفر في مؤتمر صحفي عام 2001 , والذي اعلن فيه عن اختفاء 90% من المسطحات المائية , مما شكل كارثة بيئية وثقافية للسكان الذين طردوا من بيوتهم . وأوضح توبفر ان " هذه الكارثة البيئية الكبرى التي يمكن مقارنتها بتجفيف بحر الأورال وانقراض مساحات واسعة من الغابات في منطقة الامازون لم تذكر حتى الان خصوصا بسبب الوضع الصعب الذي يسود العراق منذ عقد". وأضاف المدير العام ان " حوالي خمس سكان الاهوار البالغ عددهم 500 الف نسمة لجؤوا الى مخيمات في ايران بينما نزح الاخرون داخل العراق ", موضحا ان " ثقافة عمرها خمسة الاف عام ورثت السومريين والبابليين القدامى معرضة لخطر جدي".
ولكن من لا يكترث بالبشر , لا يكترث بالماء والشجر أيضا. لم تكن الاهوار مجرد ساقية لبستان او نهر صغير مجهول وانما عالم متميزا بخصوصية فريدة , في مياهها , في تربتها , في تنوع اسماكها وطيورها , وفي تنوع زروعها , وتنوع سكانها . الدكتور وحيد محمد فضل كتب عنها يقول " و هذه المسطحات –التي تشتهر بكونها جنات عدن القديمة-تمتاز بنظام بيئي ثري وتنوع بيولوجي منقطع النظير , حيث تعد موطنا لعشرات الأنواع من الطيور النادرة المستوطنة مثل طائر أبو منجل المقدس , كما تعد نقطة استراحة وتوقف لألاف الطيور المهاجرة بين سيبيريا وافريقيا " . ثم يتحدث الدكتور عن ثراء الاهوار " بأنواع عديدة من البوص والنباتات المائية والحيوانات المستوطنة , وعن وفرة محصولها السمكي الى الحد الذي كانت تمد فيه العراق يوما ما بأكثر من نصف احتياجاته من الثروة السمكية " . وعن سكانها يقول " وتحضي الاهوار كذلك بتراث انساني وثقافي عريق , حيث يقطنها عرب الاهوار او ما يعرف بإنسان المعدان المعروف بكونه احد اقدم السلالات البشرية على وجه الأرض , فضلا عن وجود اعتقاد بان الحضارة السومرية القديمة قد بزغت وتشكلت قبل خمسة الاف عام قبل الميلاد في تلك المنطقة".
يأبى الله ان تموت جنته على الأرض فآمات من أراد السوء بها , ورجعت الى نصف عافيتها من أعوام 2003 وحتى عام 2007 منتظرة العون والمساعدة من رجال كانت تحميهم من بطش السلطة محتضنتهم بقصبها وبرديها . ولكن هي الأخرى قد أصابها خيبة الامل من نسيان وجحود القادة الجدد التي حمتهم من الموت. لقد عاشت الاهوار العراقية في السبع او الثمان سنوات الأخيرة حياة لا تحسد عليها , عطشى وحزينة بسبب التغيرات المناخية ولكن ظلم البشر كان الاقسى عليها . لقد عانت الاهوار من تذبذب الإيرادات المائية لها كل عام , حيث أصبحت الاخر على قائمة اهتمام المسؤولين بعافيتها وهي التي جهزت المائدة العراقية بأكثر من نصف احتياجاتها من الأسماك الطازجة , اكثر من نصف حاجة العائلة العراقية من الأرز العنبر , و السبب في تلطيف جو الصيف والذي بسبب جفافه في السنوات الأخيرة أدى الى زيادة درجات الحرارة في موسم الصيف بأكثر من 5 درجات مئوية , وهكذا ينطبق على اهوار العراق شعر أبو فراس الحمداني وهو يعاتب ابن عمه سيف الدولة الحمداني حين يخاطبه معاتبا :سيذكرني قومي عندما جد جدهم ....وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.
يضاف الى بطش الطبيعة بالأهوار العراقية هو ظلم بني البشر لها. الاهوار عانت من التلوث بمياه الصرف الصحي , ارتفاع نسبة الملوحة بسبب المبازل الإيرانية , التلوث بالمبيدات الحشرية , التلوث بالمخلفات الصناعية القادمة من أعالي الأنهار , وضعف في إدارة نوعية المياه , كميتها , ومعالجة مياه الصرف . وهكذا اصبح ابن الهور يعاني إضافة الى فقر حالته المالية , المرض بكل انواعه وعلى راسها الجدري المائي بسبب تلوث المياه التي تحيط به , وقلة المراكز الصحية التي تهتم بصحته.
ولكن فائدة الاهوار للعراق لا تنتهي بثروتها السمكية والزراعية لأنها لو استغلت من قبل ايدي خبيرة مقتدرة , تحترم الطبيعة , وتحب الجمال والخيال واهتمام حكومي مناسب , فان اهوار العراق يجب ان تكون المحطة الأخيرة لعشاق الطبيعة من جميع انحاء العالم . ان إعادة الحياة الى الاهوار تضمن للعراق ازدهار اقتصادي وتطور بشري لا يستطيع قطاع النفط تقديمه. مشكلة النفط هو انه يوفر المال ولكن لا يوفر فرص عمل كبيرة للمواطن العراقي وحتى الخبرة التي يحصل عليها العاملون في قطاع النفط هي محدودة وغير قابلة للاستعمال خارج الوظيفة. ولكن فرص العمل التي يوفرها الهور هي بالآلاف ومتنوعة بتنوع الحاجات الإنسانية. بالحقيقة ان منطقة الاهوار هي هدية الله خصها الى العراقيين.
حبوها يحبكم الله ويزيد من بركاتها. إعادة الحياة الى الاهوار , توفر فرص هائلة لأهل المنطقة والمناطق القريبة منها , تطور أبناء المنطقة ثقافيا واجتماعيا و وتفتح الباب امامهم للتعرف على الثقافات العالمية , تؤدي الى تلطيف المناخ وخاصة في الصيف , مكان لقاء العراقيين من كل القوميات والأديان والمذاهب , وتوفر الطعام الى المائدة العراقية وبذلك يوفر على العراق العملة الصعبة .
ولكن لا تتوقعوا ان الله سيبني طرقها ويعمر مطاعمها ومنتزهاتها و فنادقها , و تذكروا قوله تعالى "اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله ". بناء الأوطان تحتاج الى وطنية , حب , تعب , عرق , سهر , و النظر الى المستقبل بتفاؤل. وعندما تنتعش الاهوار وتصبح مكة السائحين ومحبي الطبيعة , في ذلك الوقت سيكتب العراقيون على بابها سورة الفيل من القرآن الكريم والتي تقول " الم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل , الم يجعل كيدهم في تضليل , وارسل عليهم طيرا ابابيل , ترميهم بحجارة من سجيل , فجعلهم كعصف مأكول". صدق الله العظيم.
مقالات اخرى للكاتب